وحُرِم عن أجره خاصة، وإن أمكن أن يكون هذا المستحي أفضل منه من جهة أخرى، فإن الحياء نصف الإيمان، ولأنه اصطفى لنفسه الخمول وتحرَّز عن الشهرة فهذا باب آخر، وفضيلة من جهة أخرى، كما في الحديث ولعله في كنز العمال أن من ترك الصف الأول لأجل أحد تواضعًا لله تعالى فإنه يَضْعُفُ أَجْرَهُ - أو كما قال - مع أن ثواب الصف الأول معلوم ولكن التأخر عنه قد يفضل التقدم إليه، فهكذا يمكن أن يكون المستحي أفضل من الداخل فيه. فمن قال: إن الثالث كان منافقًا فقد اقتفى لما ليس له بعلم.
ونحوه ما عند الترمذي من حديث: «فلير أثر نعمته عليك» فإنه يدلّ على أن الفضل في إراءة النعمة. وحديث آخر «من ترك ثوب الزينة تواضعًا لله ألبسه الله حُلَلَ الكرامة يوم القيامة» - أو كما قال - يدل على أن الفضل في البذاذة. والوجه أنه لا تناقض بينهما لأنهما محمولان على بابي فضيلة فإراءة النعمة أيضًا باب وهو مطلوب بنفسه، والبذاذة فضيلة من جهة أخرى وباب آخر ومطلوب أيضًا، والشيء إذا كان ذا جهات يتأتى هناك مثل هذا فافهم [1].
وأما قوله فاستحى الله منه فمبنيٌّ على صنعة المشاكلة. قوله: (فرجة) بالفتح أو الضم وفيه حكاية عن أبي العلاء النحوي، وكان إمام اللغة فجرى بينه وبين الحجاج شيء، فاضطر إلى ترك العُمْرانات وسكن بالبادية يتقي بذلك شرّه، ومضى على ذلك زمان حتى شدا أعرابي بوفاته، وأنشد:
*ربما تَكرهُ النفوسُ من الدهرِ ... له فرجةً كحَلِّ العقالِ
فلما سمع منه الفرجة بالفتح قال لا أدري أبموته أفرح أم بتحقيق هذه اللغة فإني كنت مترددًا فيه.
10 - باب قَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - «رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ»
67 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ، وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ - أَوْ بِزِمَامِهِ - قَالَ «أَىُّ يَوْمٍ هَذَا». فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ. قَالَ «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ».
قُلْنَا بَلَى. قَالَ «فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا». فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَقَالَ «أَلَيْسَ بِذِى الْحِجَّةِ». قُلْنَا بَلَى. قَالَ «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِى شَهْرِكُمْ هَذَا، فِى بَلَدِكُمْ هَذَا. لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ». أطرافه 105، 1741، 3197، 4406، 4662، 5550، 7078، 7447 تحفة 11682 [1] ومحصله على ما أفهمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هداه إلى نية صحيحة في الحالين، فمن أراد أن يلبس ثوب جمال عليه ينوي إراءة نعمة الله تعالى. ومن أراد أن يتركه عليه أن ينوي البذاذة فهذان بابان اهـ.