.........................
= اقْتَتَلُوا} [الحجرات: 9] وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] فدل على أن الطاعات ليست أجزاءً له، كما أن المعاصي ليست محبطةً له مطلقًا، ثم إنه نعى على مَنْ أقر باللسان فقط ولم يؤمن قلبُه كما في البقرة فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)} [البقرة: 8] فعلم أن الإِقرار فقط ليس إلّا حكاية عن الإِيمان، فإِن طابقت تلك الحكايةُ مع المحكي عنه فبها وإلّا فالإِقرارُ المحضُ لا يزيد إلّا الخداع والكذب.
وتحقيقُ المقام أن للإِيمان أيضًا وُجُودَات كما هي لسائر الأشياء: وجود عينيٌّ، ووجود ذهني، ووجودٌ لفظيٌّ. وقدَ تقرر عندهم أن الأصل فيها هو الوَجود العيني، وسائرها فروعٌ وتوابعٌ فالوجود العيني للإِيمان هو نورٌ يُقذَفُ في القلب بِرفعِ حجاب بينه وبين الحق، وهذا هو النور الذي حَكَى عنه الله تعالَى في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] وذكر تمثيله بإشباعٍ، ثم ذكر سبَبَه في قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257].
وهذا النورُ مِثلُ سائر المحسوسات، قابلٌ للقوةِ والضَّعف، واشتدادٍ وانتقاص، وهو الذي يزيدُ وينقُصُ كما في قوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] ونحوها كثيرًا، والسرُّ فيه أن الحُجُبَ كلما ترتفع يزدادُ هذا النور، ويزداد الإِيمانُ قوة وثباتًا إلى أن يبلغَ الأوج، ثم أنه يتسعُ ذلك النور شيئًا فشيئًا حتى يحيطَ بالأَعضاءِ كلِّها، والقِوى أجمعِها، وحينئذٍ ينشرحُ الصدرُ للإِسلام، ويطلعُ على حقائقِ الأشياء، وتتجلى على مُدرَكَتِه غيوب الغيوب، ويعرفُ كلَّ شيء في محله ويذوقُ من وجدانه ما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أخبروا به إجمالًا أو تفصيلًا، ثم يزيدُ هذا النورُ والانشراح حتى ينبعثَ القلبُ إلى الائتمار بأوامر الشرع والانتهاء عن مناهيه. وبعد ذلك ينضم هذا النورُ مع أنوارِ الأخلاق الفاضلة، والمَلَكَات الحميدة، والأعمالِ الصالحة، فيضيءُ ظلماتِ الطبائعِ البهيمية والشهوانية، فتذل له، وإليه أشير في قوله تعالى: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8] وفي موضع آخر: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35] هذا في الوجود العيني.
أما الوجودُ الذهني فله درجتان: "الأولى": ملاحظة المعارَف المتجلِّية إجمالًا، والنظرُ إلى الغيوب المنكشفةِ كليًا، وهو مفاد كلمة: لا إله إلّا الله محمد رسول الله وتسمَّى تلك الملاحظةُ تصديقًا إجماليًا وبلفظ آخر: /كرويدن وباور كردن/؛ و"الثانية" ملاحظة كل من تلك الغيوبِ المتجلية تفصيلًا، بمعنى كل فرد فرد، مع الارتباط بينها، وتسمَّى تصديقًا تفصيليًا.
أما الوجود اللفظي ففي اصطلاح الشرع عبارة عن الشهادتين فقط. وظاهر أن الوجود اللفظي للشيء بدون تحقق حقيقة لا يُسْمِنُ ولا يُغني من جوع، وإلّا لزم أَن يروي، الغليل من ذكر الماء ويشبعَ الجائع من اسم الخبز، ولكن لمّا لم يكن في عالم البشر للتعبيرِ عما في ضميرِهِ سبيلٌ غير النُّطقِ والتلفظ، صار للشهادتين دَخل عظيم في الحكم بالإِيمان، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلَّا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلّا بحقها وحسابهم على الله" ومن ههنا عُلِمَ كيفية زيادةِ الإيمان ونقصانه، وقوته وضعفه، ولاح أن ما ورد في الحديث الصحيح: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"، وقوله: "والحياء من الإيمان"، وقوله: "لا يؤمن أحدكم حتى يأمن جاره بواثقه" كلها محمول على كمال الإِيمان والوجود العيني له. ومن ذهب إلى نفي الزيادة والنقصان أراد المرتبة الأولى من الوجود الذهني، وحينئذٍ لم يبق بين الفريقين نَزاعٌ ولا خلاف.
ثم الإِيمان على نحوين: تقليدي وتحقيقي. والتحقيقي أيضًا ينقسِمُ إلى قسمين: استدلالي وكشفي. وكل منهما على نحوين: إما أن يبلغ إلى حدِّ لا يتجاوزه أولا. والثاني: يُسمَّى علم اليقين. والأول على ضربين: إما المشاهدة، وُيسمَّى بعين اليقين، أو الشهودِ الذاتي، ويسمى حقَّ اليقين. وهذانِ الأخيران لا يدخلان في الإيمان بالغيب هذا.