واعلم أن لفظَ الإحسانِ شاملٌ لجميعِ أنواع البر من الأذكار من الأذكار، والأشغال وغيرها. والأذكارُ تقالُ للأوراد المسنونة، وما ذكرهُ المشايخ من الضربات والكيفيات يقال لها: الأشغال. والنسبة في اصطلاحهم: ربطٌ خاصٌ سوى ربطِ الخالقية والمخلوقية، فمن حصل له ربطٌ سوى الربط العام يقال له: صاحب النسبة.
والطرق المشهورة في التصوف أربعة: السُّهْورْدِية، والقَادِرِية، والجشْتِية، والنَّقْشَبَنْدِية، والسلسلة السهروردية قد تسلسلت في أجدادنا من عشرةٍ متصلةٍ ثم ما نقل إلينا من الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد سُمِّي شريعةً. والتخلُّقُ بها يُسمَّى طريقةً، وحينئذٍ تنصَبِغُ الأعمال بصبغ الإيمان كما كان في السلف. أما اليوم فعلمٌ بلا عمل، وإيمانٌ بلا تصديق من الجوارح، «ربَّ تالٍ للقرآن والقرآنُ يلعنُهُ». ثم الفوزُ بالمقصد الأسنى، والنيلُ بالمأرب الأعلى يُسمَّى حقيقةً. ومن ههنا ظهر أن الطريقةَ والشريعةَ لا تتغايران كما زعمه العوامِّ.
وقد كتب الغزالي أن بعضَ العلمِ لا يُضطرُ العَالِمُ إلى العمل به، وبعضه يغلِبُ عليه، ويستعملُ الأعضاء في الطاعات، وهذا هو الإيمان عند السلف، وهو المرادُ بما قلت: إن الإيمان ينبسِط من الباطنِ إلى الجوارحِ، والإسلام يدخل من الظاهر إلى الباطن. فإن التصديقَ إذا غلب واستعمل الأعضاء صارَ الإسلامُ والإيمانُ متحدين، وهو المراد باتحاد المسافتين، وإلى هذا المقام أشير في قوله: «أن تعبد الله كأنك تراه» ... إلخ، فإن العبادة التي تتعلقُ
= والجهة الثانية متحققةٌ لكنها علم بحت على هذا التقدير، وليس المقصود تحصيلها، بل المطلوبُ هو عبادتُه من تلك الجهتين.
فالحاصل أن الإِحسانَ على الشرح الأول عبارة عن الحالتين المقصودتين تُثمِّرُهما معرفته تعالى وخشيته. وعلى الثاني عبارة عن العبادة بهاتين الجهتين، فهاتان جهتان للعبادة المطلوبة، لا حالتان مطلوبتان للعبد، فالمطلوب هو العبادة فقط، و"كأنك تراه" جهة لها، بمعنى أن العبادة ينبغي أن تكون بالخشوع بدون العيان كما تكون عند العيان، ومعلوم أنها عند العِيان تكون بغاية حسنِ السَّمتِ والتأدب ظاهرًا وبَاطنًا؛ فينبغي أن يكون عند عدم العِيان أيضًا كذلك، لأن الله تعالى يدرِكَ الأبصار ولا تدركُه الأبصار، فهو غير مُعَاين لكن عبادتَه ينبغي أن تكون كما لو كنتَ تُعَاينُه، لأن العبادة في حالة المعاينة إنما تكون بالخشوع مراعاة لرؤيته تعالى، ولا دخل فيه لرؤيتك، لأنك إنما تخشى المَلِكَ لزعمكَ أنه يراكَ أو يعلَم حالك، وإن كنتَ تزعمَ أنه لا يراكَ أو لا يعلمُ حالَكَ، لا تخاف منه. وإن كنت تراهُ فكذلك عبادتك مع عدم رؤيتك، إياه ينبغي أن تكونَ كما لو كنت تراه ويراك، لأن موجب الآداب والاعتناء بها هو رؤيته، لا رؤيتك، وهو متحقق دائمًا، فهذا أيضًا جهةٌ للعبادة المطلوبة، لا حالة مطلوبة في نفسها. بل عِلْمُ هذه الجهة تورثُ الخشوعَ في العبادة فهذه مؤثرةٌ ومورِثةٌ للخشوع.
وبالجملة المقصود على الأول هو الانصباغ بهاتين الحالتين، وعلى الثاني المقصود هو العبادة من جهة حالة مقدرة وعلم محقق. وشرح النووي هو أقرب عند الشيخ رحمه الله تعالى، وإنما طوَّلتْ الكلام في بيان الفرق بينهما مع التكرار الشديد، بحيث يكادُ أن يملَ الناظر، لأنه تعسَّرَ على الفرق بينهما، وبعد تفكرٍ وتعمقٍ انكشف لي الأمر، فكأنما نَشِطت من عِقال، ودونك بيتين غريبين في هذا المعنى:
كان رقيبًا منك يرعى خواطري ... وآخر يرعى ناظري ولساني
وإني لأستحييك والبعد وبيننا ... كما كنت أستحي وأنت تراني