نعم، قال محمد رحمه الله تعالى في «موطئه»: ليس من الأمر الواجب الذي إن تَرَكَه تاركٌ أثم فخرجَ منه أن ترك السنة قد لا يوجبُ الإثم، كما أن التثليثَ سنةٌ وتركُهُ لا يوجب الإثم. قلت: وينبغي أن يُقيدَ بتركه أحيانًا، أو بقدر ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلّم لا مطلقًا. وهو الذي اختاره المحقق ابن أمير حاج تلميذ ابن الهمام رحمه الله تعالى وصرح بالإثم إذا اعتاد الترك. ثم إن عبارةَ محمد رحمه الله تعالى تدلُ على ثبوتِ مرتبة الواجب، فإنها تشعر بتقسيم الواجب عنده: إلى ما لا إثم بتركه، وإلى ما بتركه إثم، وليست تلك المرتبة عند الجمهور، وهي عند الشافعي رحمه الله تعالى في الحج فقط، وعندنا في جميع العبادات المقصودة، وتُوجد هذه المرتبة في «المبسوط» أيضًا. وليس له اسم في كتاب الطحاوي، وهو من المتقدمين، ولذا اعتنيتُ بلفظِ محمد رحمه الله تعالى هذا.
(والله لا أزيد على هذا ولا أنقص) قيل في توجيهه: إنه محاروةٌ لتحفظ الأمور [1]. وقيل معناه: لا أزيدُ عددَ الفرائض ولا أنقُص منها وهو مهمل. والأول ينتقض بما أخرجه البخاري في الصيام من طريق إسماعيل بن جعفر: والله لا أتطوع فإنه صريحٌ في نفي التطوع والقصْرِ على الفرائض، فسقط ما أجاب به المجيبون. والوجه عندي أن هذا الرجل جاء إلى صاحب الشريعةَ واسترخَص منه بلا وَاسطة، فرخَّصَ له الشارع خاصة، فيصير مستثنى من القواعد العامة، كما في الأضحية «ولا تجزىء عن أحد بعدك». وهذا أيضًا باب يعلمه أهل العرف، فلا أثر له على القانون العام، فمن أراد أن يترخصَ برخصتِهِ فليسترخَّص من الشارع، وإذ ليس فليس.
وأشار إليه الطِّيبي رحمه الله تعالى أيضًا إلا أنه لم يفصِحْ بمراده، وأراد الزرقانيُّ إعلالَ تلك الرواية من جهة إسماعيل بن جعفر. قلت: وهو غير مسموع، كيف وقد أخرجه البخاري. وعند أبي داود من باب المحافظة على الصلوات عن عبد الله بن فَضَالة عن أبيه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكان فيما علمني: وحافِظ على الصلوات الخمس، قال: قلت: إن هذه ساعات لي فيها أشغال، فمرني بأمرٍ جامع إذا أنا فعلتُهُ أجزأ عني فقال: «حافظ على العصرين» إلخ ومر عليه السيوطي رحمه الله تعالى وقال: ولعل هذا الرجل إنما فرضت عليه هاتان الصلاتان فقط، واستثناه النبي صلى الله عليه وسلّم عن الحكم العام.
قلت: بل التخصيص بهما لمزيد الاهتمام بهاتين الصلاتين، وقد ورد التأكيد بهما في حق جميع الأمة أيضًا، كما رواه أبو داود مرفوعًا «لا يلج النار رجلٌ صلى قبل طلوع الشمس وقبل أن تغرب». ورواه غيره: «من صلى البَرْدَين دخل الجنة» فليس في حديث فَضَالة غير ما في تلك الأحاديث، وحينئذٍ ليس هذا الرجل مخصوصًا من قاعدة كليةٍ كما زعمه السيوطي رحمه الله [1] قلت: ونظيره ما عند الترمذي في أبواب السير في قصة معاوية رضي الله تعالى عنه وعبسة رضي الله تعالى عنه: لا يحلن عقدًا ولا يشدنه مع أنه لا بأس بالشد، فقالوا: إنه كناية عن التغيير.