فهذه كلُّها نافعةٌ له في الآخرة، وإن لم تكنُ منجية، فإن المنجيَ من النار هو الإيمان لا غير، إلا أنها تصير سببًا لتخفيف العذاب شيئًا، ولذا أجمعوا على أن الكافرَ العادل أخفُّ عذابًا من الكافر الظالم، وكذا عُلم من الشريعة تفاوت دركات العذاب، وليس هذا إلا لنفع الطاعات يسيرًا.
بقيت العبادات، فلا تعتبرُ أصلًا، فما أول به النووي في «شرحه» قول الفقهاء، وقال: وأما قول الفقهاء: لا تصح من الكافر عبادة، ولو أسلم لم يُعتدّ بها، فمرادهم أنه لا يعتد له بها في أحكام الدنيا، وليس فيه تعرض لثواب الآخرة. انتهى. ليس بصواب عندي قطعًا، فإن عبادات الكفار ليست بمعتبرة في أحكام الدنيا ولا في أحكام الآخرة، ولذا لم تُذْكر في حديث حكيم بن حِزَام غير العتق وأمثاله، ولم تذكر فيها العبادات أصلًا.
فالحاصل: أن الطاعاتِ والقُرُباتِ، كلُّها نافعةٌ للكافر، أما العبادات فغيرُ معتبرةٍ أصلًا بلا تأويل والله أعلم بحقيقة الحال.
33 - باب أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ
أي ينقسم الدين إلى الأحبِّ وغيره، كما انقسم إلى العسير، واليسير، والأحسن، وغيره. ثم ذلك أيضًا إيمان. قال العلماء: إن القليل الذي دِيْم عليه خيرٌ من الكثير الذي لم يداوَم عليه، كما في الحديث، ومثَّلَه الغزالي رحمه الله تعالى أن الماء إذا قَطَرَ على حجارةٍ قطرة قطرة، ولم يزل كذلك يقطرُ، فإنه يثقبُ فيه يومًا، بخلاف إذا صُبَّ صبًا، فإنه لا يؤثر فيه بشيء.
43 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبِى عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ قَالَ «مَنْ هَذِهِ». قَالَتْ فُلاَنَةُ. تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا. قَالَ «مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا». وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ. طرفه 1151 - تحفة 17307
(لا يمل) قيل: إن الملال لا يُنسب إلى الله تعالى، فالنفي فيه على سبيل المُشَاكلة، والمراد منه أن الله تعالى لا يتركَ الإثابة ما لم تتركوا العبادة. قلت: وشاكلتُه كاليد، والأصابع، والوجه، فما قُرر فيها يقرر فيه أيضًا. وسيجيء عليه الكلام في موضعه إن شاء الله تعالى ما يكفي ويشفي.