المعاصي، أو الكافر على العاصي، ليتوجه ذهنُ الناظر إلى أن هذه الترجمة شرح لمثل هذه الأحاديث، ولكنه لم يشرْ إليه في مقام ولم يخرجْ تحته حديثًا كما وصفنا، بل ذكر أن كفرًا يباينُ كفرًا آخر، ولم يجعل الكفر شيئًا واحدًا وعرضًا عريضًا. فإن قلت: إنه قد أخرج حديثَ كُفْران العشير قلت: الكفران ههنا بالمعنى اللغوي (حق ناشناسى) وهو قد يطلق على أمر لا يكون معصيةً أيضًا، ولو كان أراد الإشارة إليه، فلا أقل من أن يُخرِّج تحته قوله صلى الله عليه وسلّم «وقتاله كفر» ولكنه لم يخرج مثل هذه الأحاديث في باب من أبواب الإيمان، ولم يشر إلى: تأويلها في موضع من المواضع.
فإن قلت: إن الحديث قتاله كفر وقد أخرجه في الباب الآتي. قلت: لكنه لم يبوب عليه بكفر دون كفر بل بوب بباب آخر ولم يستفد منه هذا المعنى. والحاصل أنه إذا بوّب بترجمة أمكنت أن تكون إشارةً إلى تحقيق الحافظ ابن تيمية لم يُخرج تحتها حديثًا، أطلق فيه الكفر على المعصية، لتكون إشارة إلى شرحها، وإن أخرجَ حديثًا كذلك لم يترجم عليها بترجمة تكون مُشْعِرة بشرحها، ولو كان أراد التحقيق المذكور لجمع بينهما. ولما حجر في الباب الآتي عن إطلاق الكفر على العاصي إلا بالشرك، وقال: «ويكفر صاحبها» مكان ولا يكفر، وأيضًا لوجب عليه أن يقيدَ قوله: «ولا يكفر صاحبها» بقيد ما، كالكفر بالله ليتم مراده، ولا أخالُ عبارة المصنف رحمه الله تعالى تكون ناقصةً في مثل هذا الموضع، وأيضًا لما ذكر التحذيرَ من الإصرار على التقاتل في باب خوف المؤمن أن يحبط عمله، وخشية أصحابه صلى الله عليه وسلّم على أنفسهم النفاق، لأن حاصل هذه الترجمة أنه ليس بكافر في الحال، ولكنه يُخشى عليه سوء الخاتمة، أعاذنا الله منه وأماتنا على الملة البيضاء المحمدية على صاحبها الصلاة وألف ألف تحية.
فهناك تحذيرٌ من الكفر بكفرٍ يُوجب الخروجَ عن الملة، لا حكمٌ بالكفر بكفر دون كفر في الحالة الراهنة، كما سيأتي، وهذا يخالفُ تحقيق الحافظ ابن تيمية فإنه يُجوِّز إطلاقَ الكفر في الحال بكفر دون كفر، فينبغي أن يُلاحظَ في شرح هذا الباب هذان البابان أيضًا، فإن لهما تعلقًا بهذا الباب، وقد علمت: أن الترجمة التالية: ولا يكفر صاحبها يُشعر بعدم اختياره هذا التحقيق، وكذا فيما بعده يدل على التحذير من الكفر المُخْرِجِ عن الملة، وليس فيه تَعرّضًا إلى كفر دون كفر، مع عدم الإشارة إلى هذا التوجيه في باب من أبوابه، فلا يصح عندي إدخال هذا التحقيق في شرح تراجمه.
ولعل المصنف رحمه الله تعالى إنما ترجم بكفر دون كفر نظرًا إلى خصوصِ ألفاظِ هذا الحديث، ولما كان في الحديث الفعل الواحد مضافًا إلى الله والعشير، صار الكفر مختلفًا، وبوب بكفر دون كفر، ولم يرد التأويلُ في مثل تلك الأحاديث، ومثله يفعلُ المصنف رحمه الله تعالى في أبوابه ويضع التراجم نظرًا إلى خصوص الألفاظ أيضًا، والمصنف رحمه الله تعالى لعلو كعبه، ورفعة محله لا يزيد لأجلنا حرفًا، ويتكلم على قدر علمه فيُوجب تحيرًا للمحققين واعتراضًا للقاصرين، ولم يؤد أحدٌ حق تراجمه إلى يومنا هذا، فهي كالأحاجي بعد، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.