قلت: والمختارُ عندي ما جعله الحافظ رحمه الله مرجوحًا. ثم إن الحافظ رحمه الله بنى شرحَهُ على شرح القاضي أبي بكر بن العربي، وحاصله راجعٌ إلى تحقيق الحافظ ابن تيمية رحمه الله. ومحصَّلُ تحقيقه: أن الإيمانَ لما كان مركبًا أمكن أن يوجدَ في المؤمن بعض أشياء الكفر، وفي الكافر بعض أشياء الإيمان، كالكِبْر فإنه من الكفر وقد يوجدُ في المسلم أيضًا، وكالحياء فإنه من الإيمان وقد يوجد في الكافر أيضًا فالإسلام عَرْضٌ عريضٌ، أعلاه: لا إله إلا الله وأدناه إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما مراتبٌ لا تحصى، وكذلك الكفر أيضًا عرضٌ عريض، فكما أن الإيمانَ المنجي ما هو في المرتبةِ الأخيرة، كذلك الكفرُ المهلك أيضًا ما كان في تلك المرتبة. وبين أعلى الكفر، وأدناه مراتبُ لا تحصى. وعلى هذا فالكفرُ اسم للجحودِ والفسوق.
وأقرب نظائِرِه كالصحة والمرض، فيوجدُ في الصحيح بعض أشياء المرض، وفي المريض بعضُ أشياء الصحة، ولكن هذا التقرير يناسبُ وظيفة المُحدِّث، والمفسر، أما على طريقِ الفقيهِ والمتكلم، فإنهم لا يبحثون إلا عن النجاة وهي المرتبة الأخيرة، فلا يجتمعُ الإيمان مع الكفر عندهم أصلًا. قلت: كما أن المحدثين والمتكلمين اختلفوا في الحالةِ المتوسطة بين الإيمان والكفر، فأثبتها الأولون، ونفاها الآخرون، كذلك اختلف الأطباء في الصحة والمرض فذهب جالينوس إلى أن هناك ثلاثة أحوال: الصحيح فقط، والمريض فقط، والذي بينهما، وأنكره ابن سينا وثنَّى القِسْمة، فالأعمى عند جالينوس ليس بصحيحٍ من حيث فقدان حاسة البصر، ولا مريضٍ من حيث صحة بقية الأعضاء، وعند ابن سينا هو مريض.
ومن هذا التحقيق انحل كثيرٌ من الأحاديث التي أُطلق فيها لفظ الكفر على الكبائر، واستغنى عن التأويلات، كقوله صلى الله عليه وسلّم «من ترك الصلاة فقد كفر».فأول فيه بعضهم أنه ليس حكمًا بالكفر، بل معناه أنه قُرْبُ الكفر. قلت: وليس بشيء، لأن الحديث يصفه به في الحالة الراهنة، ويرميه بالكفرِ ولا ينظرُ إلى حالة أخرى، وقال قائل: معناه من ترك الصلاة مستحِلًا، وهو أيضًا من هذا القبيلَ؛ لأنه لا يختص بالصلاة فإنه يكفر باستحلال كل حرام قطعي، وقال آخر: معناه أنه فَعَل فِعْل الكفر، وهذا نافذ، والرابع ما أراده الحافظ ابن تيمية رحمه الله أي فقد كفرَ بكفرٍ دون كفر، فلم يُكْفِرْه بكفر يوجب الخلود، بل بكفرٍ سُلِبَ عنه حُسْنُ الإسلام، وشأنَه بوصمة الكفر، وهذا أحسن من الكل.
ومقتضى هذا التحقيق جوازُ إطلاق الكافر على العاصي، لقيام مبدأ الكفر به والأعجب إليَّ: أن يحجزَ عنه إطلاق الكفر وإن صح ظاهرًا، فإن فيه مفاسد لا تخفى. وقد سمعت أن نظرَ الحنفية لما كان مقتصرًا على المرتبة الأخيرة - وهي التي تليق بوظيفتهم - لم يختاروا ذلك التحقيق كما مر مفصَّلًا.
إذا سمعت هذا فاعلم أن الحافظ رحمه الله جعل حاصلَ هذه الترجمة والترجمة الأخرى باب «ظلم دون ظلم» واحدًا، وقال: إن المصنف رحمه الله لما أقام المراتب في الإسلام لزمَ منه أن يُقيم المراتب في الكفر أيضًا، وجعل «دون» بمعنى أقرب، ليكون أسهل في الإشارة في