وعلى هذا لا دليلَ في الآية على أن المسلمَ لو فعل ذلك، والعياذُ باللَّه، ثم حُدّ حدَّه، كان له عذابٌ في الآخرة أيضًا، لأنه ليس جزاء للفعل. على هذا التقدير، بل الشَّنَاعة في الجزاءِ بشناعةُ الفاعلين. وهذا موضعٌ مشكلٌ جدًا يتحير فيه الناظر، فإنّ الآية تكونُ عامّةً بحكمِهَا، ثم تشتملُ على بعض أوصاف المورد، فيحدث التردد، هل هي معتبرةٌ في الحكم أيضًا أم لا، فيعتبرُهَا واحدًا ويُجرى الحكمَ على المجموع، ويقطعُ عنها النظرَ آخر، ويزعمُ أن تلك الأوصافَ مخصوصةٌ بالمورد، ويأخذ الحكمُ العام، ويُعدِّيه إلى غيره، مما ليس فيه هذه الأوصاف، وهذا مما يتعسرُ جدًا، وكثيرًا ما يقع في القرآن مثل ذلك، فإنه يُبيِّن حكمًا عامًا، ويومي إلى الوقائع أيضًا ليبقى له ارتباط بالموضع والمورد أيضًا، فإذا ركب عبارةً تعطي حكمًا عامًا مع الإيماءات إلى الوقائع تعسر إدارة الحكم على بعضها، وترك بعضها، وإدارة الحكم على المجموع، فاعلمه فإنه مهمٌ جدًا.
وهناك آية أخرى تتعلقُ بموضوعنا: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92] ومعناه عندي: أن إيجابَ الصيام عليه ليخافَ ويقلعَ عنه في المستقبل، ويندم ولا يعود إليه ثانيًا، وحينئذٍ تكون تلك الصيام مغفرة له، لا أن مجردَ الصيام مغفرة له. وآية أخرى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]، وقوله تعالى: {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} قال التفتازاني في المطول: إن التنوين في المسند على الأصل، فلا تحتاج إلى نكتة، أقول: إلا تنوين المنعوت، فإنها لا تخلو عن نكتة، بخلاف التنوين في المُسند إليه، فإنها لما كانت على خلافِ الأصل، لا تخلو عن نكتة مطلقًا، فالتنوين في المسند المنعوت كما في قوله:
*صح أن الوزير بدر منير ... إذ تواري كما توارى البدور
وفي المُسْنَد إليه، كما في قول عمرو بن أبي ربيعة المخزومي.
*وغابت قمير كنت أرجو غيابها ... وروح وريحان ونوم وسمر
وعلى هذا التنوين في قوله: {كَفَّارَةٌ لَّهُ} يفيد أن في الحدودِ تكفيرًا ما، فإن التنوينَ فيه ليس حشوًا، على أن لفظَ الكفارة يدلَ على الستر، لا على التطهير كل التطهير، فلا دلالة في الحديث على أن الحدودَ مكفراتٌ بالكلية، بل على أن فيها شيئًا من التكفير والستر، ولعل الحنفية أيضًا لا ينكرونه [1].
تنبيه: واعلم أنه لا ينبغي أن يُبحثَ في الحديث عن المعاني الثواني، والمزايا، وأن يدارَ عليها المسائل، فإن الحق عندي: أن لفظَ الحديث ليس بحجةً في هذا الباب، لفشو الروايةِ بالمعنى، فلا يتعين أنه من لفظه صلى الله عليه وسلّم أو من تلقاء الراوي، فينبغي أن تؤخذَ الأحكامُ من القدر [1] وإنما قالوا: إنها للزجر كما يدل عليه ما في "المشكاة" عن جابر رحمه الله تعالى: أن سارقًا لما جيء به في المرة الرابعة أمر به أن يقتلَ، لأن المقصودَ من إجراءِ الحد كان الانزجار، ولما لم ينزجر، أمر بقتله، وتطهيرِ الأرض من وجوده.