رأسه الذي هو أصلُهُ نحو الفوق على خلاف شاكلة الشجرة، فإن أصلها في الأرض وتنحدر أعضاؤُها كلها إلى التحت كاليدين، والرجلين، والأشعار، وحينئذٍ ناسب أن يكونَ القلبُ أيضًا إلى التحت، ففي خلقه إشعار بكونه عُلْويًا، على خلاف شاكلة سائر الخلق، ثم جعله في اليسار ليكون مِلْكُهُ في اليمين.
وأما محل المعرفة فذهب المصنف رحمه الله تعالى: إلى أنها في القلب.
أقول: المعرفة أقرب من العلم وليست بإيمان، بل هي من مقدماته. وقال المعتزلة: إن المعرفة الحقة اليقينية شرط للإيمان كما مر، لأنه لا إيمان عندهم إلا بالاستدلال المفيد للقطع. وعندنا يكفي له الجزم وإن حصل بالتقليد، والاستدلال غير ضروري. ونقل النووي ههنا عن القاضِي عِيَاض: أن الإيمان يزيد وينقص لزيادة المعرفة ونقصانها، فدل على أنها غير الإيمان، وهذا صحيح جدًا. وحينئذٍ تردد النظر في محلها هو القلب، أو الدماغ. نعم، المعرفة المكتسبة التي تحصل بعد الرياضات، وهي الإيمان الكامل، لا شك أن محلها القلب. وعلى هذا لو قال المصنف رحمه الله في الترجمة الآتية: وإن الإيمان فعل القلب، لكان أحسن.
واعلم أن الرُّوح: طبعي، وحيواني، ونفساني، ومحل الأول: الكبد، وفعله التغذية، ومحل الثاني: القلب وفائدته الحياة، ومَعْدِن الثالث: الدماغ، وفائدته الحِسّ والحركة والروح عندي بعد الإمعان واحد، وإنما تعددت أسماؤه باعتبار الاختلاف في المواطن. ثم إن الأطباء حرروا عشرة آلاف حكمة في البدن الإنساني، غير أنهم لم يذكروا لكون القلب منكُوسًا حكمة، وقد ذكرتها. والعلم عند الله العليم الخبير.
النِّسْبَةُ بين الإسْلام والإِيْمَان
وقد جوَّز الغزالي رحمه الله تعالى بينهما النِّسبَ الثلاث من الأربع، غير العموم من وجه، باعتبارات مختلفة، ويقرُب منه ما قال الدَّوَّاني: أن الإسلام هو الانقياد الظاهري، وهو التَّلفظ بالشهادتين، والإقرار بما يترتب عليهما. والإسلام الكامل الصحيح لا يكون إلا مع الإيمان، والإسلام الظاهري قد ينفك عن الإيمان، قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] وأما الإسلام الحقيقي المعتبر عند اللَّهِ فلا ينفكُ عن الإيمان. وما وَضَحَ لدي: أن الإيمان يتدرج من القلب إلى الجوارح، على عكس الإسلام، فهما في مسافة ذهابًا وإيابًا، فإن ظهر الإيمان على الجوارح، ورسخ الإسلام في القلب فهما واحد، وإن بقي الإيمان في القلب واقتصر الإسلام على الجوارح فهما متغايران [1].
وأعني باتحادِ المسافة وسراية الإسلامِ إلى الباطن نسبةَ الإحسان. كما سيجيء في حديث [1] قلت: وفي رواية للشيخين: قال الزهري: فنرى أن الإسلام الكلمة، والإيمان العمل الصالح، كذا في "المشكاة" في الفصل الثالث من باب قسمة الغنائم والغلول فيها. لا أريدُ أنه فصل في الباب، بل هو نَظَرٌ من الأنظار، ووجه من الوجوه. وانما اعتنيت به لكونه عن عالم جليل القدر، الذي طار صيتُه إلى الآفاق.