والرابع: مذهب أهل السنة والجماعة وهم بين بين، فقالوا: إن الأعمال أيضًا لا بد منها، لكنّ تَارِكها مُفَسَّقٌ لا مُكَفَّر. فلم يُشددوا فيها كالخوارج، والمعتزلة، ولم يِهوِّنوا أمرها كالمرجئة. ثم هؤلاء افترقوا فرقتين، فأكثر المُحدِّثين إلى أن الإيمانَ مركبٌ من الأعمال. وإمامنا الأعظم رحمه الله تعالى وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أن الأعمال غير داخل في الإيمان، مع اتفاقهم على أن فاقدَ التَّصديق كافرٌ، وفاقدَ العمل فاسقٌ، فلم يبق الخلاف إلا في التعبير. فإن السلف وإن جعلوا الأعمال أجزاء، لكن لا بحيثُ ينعدمُ الكل بانعدامِهَا، بل يبقى الإيمان مع انتفائها.
وإمامنا وإن لم يجعل الأعمال جزءًا، لكنه اهتم بها وحرَّضَ عليها، وجعلها أسبابًا سارية في نماء الإيمان، فلم يهدُرها هَدْر المرجئة، إلا أن تعبيرَ المُحدِّثين القائلين بجزئية الأعمال، لما كان أبعد من المرجئة المنكرين جزئية الأعمال، بخلاف تعبير إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى، فإنه كان أقرب إليهم من حيث نفي جزئية الأعمال، رُمِي الحنفية بالإرجاء. وهذا كما ترى جور علينا فالله المستعان. ولو كان الاشتراك بوجه من الوجوه التعبيرية كافيًا لنسبة الإرجاء إلينا، لزم نسبة الاعتزال إليهم، فإنهم قائلون: بجزئية الأعمال أيضًا كالمحدثين، ولكن حاشاهم والاعتزال، وعفا الله عمن تعصب ونسب إلينا الإرجاء، فإن الدين نُصْحٌ كله، لا مُرَامَاة ومُنابذة بالألقاب. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تعدد الاصطلاح في الإرجاء
صرح الشَّهرستاني في «المِلل والنِّحل» على تعدد الاصطلاح فيه، وقال: إن المرجئة على قسمين:
مرجئة أهل البدعة، وهم الذين أهملوا الأعمال وزعموا التَّصديق كافيًا للنجاة، فلا يضر عندهم مع الإيمان معصية.
والثاني: مرجئة أهل السنة، وهم المنكرونَ جُزئيتها، مع شَغفِهم بالأعمال والأوامر من حيث الائتمار، والنواهي من حيث الاجتناب. وعُدّ الحنفية من القسم الثاني. وفي عقائد الحافظ فضل الله التُّوْربِشْتي رحمه الله تعالى: عندي أن المرجئة [1] هم الذين قالوا: إنه لا اختيار للعبد. والتوربشتي هذا حنفيُ متقدِّم على الرازي رحمه الله تعالى، وكتابه هذا أجودَ من «شرح المقاصد» وغيره. فليس النزاعُ بين الأئمة إلا في كون الإيمان مجموع الأجزاء، أو التصديق فقط. أما كون الأعمال واجبة، فلا اختلاف بينهم في ذلك. [1] قلت: وأخرج الترمذي في أبواب القدر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صِنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجِئَةُ والقَدَرية". اهـ. قال ابن ملك: المرجئة هم الذين يقولون الأفعال كلها بتقدير الله تعالى، وليس للعباد فيها اختيار، فإنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة. كذا في اللمعات.