الأكبر: إنه حنفي [1] والخشية إنما كانت بالعجز عن حمل أعباء النبوة، وإنما لم تضطرب خديجة رضي الله عنها لأنها لم تكن صاحب الواقعة، وفَرْقٌ بين مَنْ يدخل في الشيء ويكون صاحبَة الواقعة، وبين من يسمعها من وراء وراء [2]. [1] يقول العبد الضعيف ونص الحافظ عن شيخه في التعبير أن الحكمة في العدول عن القلب إلى الفؤاد أن الفؤاد وعاء القلب على ما قاله بعض أهل اللغه فإذا حصل للوعاء الرجفان حصل لما فيه فيكون في ذكره من تعظيم الأمر ما ليس في ذكر القلب،. وأما بوادره فالمراد به اللحمة التي بين المنكب والعنق جرت العادة بأنها تضطرب عند الفزع وعلى ذلك جرى الجوهري وتعقب ابن بري فقال هي ما بين المنكب والعنق يعني أنه لا يختص بعضو واحد وهو جيد فيكون إسناد الرجفان إلى القلب لكون محله وإلى البوادر لأن مظهره اهـ ملخصًا. [2] قلت إن الله سبحانه إذا اصطفى أحدًا لنبوته أو رسالته يخلق فيه عقيبه علمًا ضروريًا بنبوته بحيث لا يبقى له قلق ولا اضطراب كما يظهر من قصة موسى عليه الصلاة والسلام حين توجه إلى الطور لأن يأتي قبسًا أو يجد على النار هدى.
ومعلوم أنه لم يكن مراقبًا عم يصنع به ولا منتظرًا بما يحمل عليه إذ ناده ربه من شاطىء الوادي الأيمن {يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} وأمره أن يذهب إلى فرعون إنه طغى فلما سمعه موسى عليه الصلاة والسلام ألقى عليه في ساعته تلك في اليقين والإذعان بنبوته ما هون عليه الدعوة لمثل فرعون الباغي الطاغي فلم يتأخر عن معارضته طرفه عين، ولا شك في نبوته كجناح بعوضة إلا أنه كان بشرًا خلق من ضعف فشكى إلى ربه عن ضعفه وسأله أن يجعل أخيه ردئًا يصدقه ويكون عونًا له فإنه كان أفصح لسانًا وأبين حجة ولهذا قال: "ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون" ولذا خاف من عصاه حين صار حيًا حين قال ربه "خذها ولا تخف" فلم يكن هذا الخوف شكًا منه أو إعراضًا عما أمره الله به والعياذ بالله، بل إظهارًا لضعف جبل عليه الإنسان: فإذا لم يشك من كان نبىء بدون تمهيد ولا سابقية خبر فكيف بمن مهد له تمهيدًا ومرن تمرينًا في النوم واليقظة؟ ولكن إذا تجلى له الملك، وقد سد الأفق وغطه حتى بلغ منه الجهد وأنزل عليه من الكلام ما لو أنزل على الجبال لتصدعت من خشية الله وتخشعت جعل يرجف فؤاده ويخشى على نفسه لا لريب عرضه أو هول هاله بل لضعف فطر عليه الانسان. بلى وحق له أن يرجف ويخشى. كيف وقد كان هذا أول معاملة اعترته؟ وفكر في نفسك أن لو عرا أحدًا الآن مثل ما عراه ماذا يصنع. ثم ما زال عليه من تلك الشدة بقايا حتى كان يأخذه الغطيط والبرحاء في شدة البرد كما علمت. فإذا كان هذا حاله بعد مزاولات ومعاهدات بالوحي فما ظنك به إذا كان نزل عليه وهو غير ممارس لتلك الأهوال والأحوال. ولكن الذين أشربت قلوبهم هواسات النصارى واتباعهم في كل ما وسوست به صدورهم جعلوا يحملونهم على ما يقشعر منه جلود الذين آمنوا فهم في ريبهم يترددون. وأصرح قرينة على ما قلنا ما عند البخاري في التفسير: فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجئت منه حتى هويت إلى الأرض وفي "بدء الوحي" فرعبت، وليس فيه لفظ "منه" فجئت أهلي فقلت زملوني زملوني، وهذا وإن كان في واقعة أخرى لكنه قرينة قوية على أن الخشية إنما لحقها مما رأى الملك على عظمته وهيأته بين السماء والأرض وهذه الأمور تضعف عن حملها فطرة البشر، فالخوف والخشية لا يصادم الإذعان والإيقان بشيء أصلًا لأنه في بنية البشر قال تعالى {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}، وكما جاز لموسى أن يخاف من عصاه حين صار ثعبانًا ولم يصادم ذلك إيمانه جاز للنبي صلى الله عليه وسلم أيضًا أن يخشى عند رؤية الملك بهذه الهيئة لأن الملك على تلك الهيئة وغطه ليس بأدون من عصاه. ثم بدا لي أن في إلقاء تلك الخشية عليه وإبلاغ هذا الجهد منه حكمة عظيمة من الله تعالى، فإن الخشية والجهد وإن كان مما لابد منهما في المعاملات الروحانية مطلقًا وقلما تعترض معاملة ربانية إلا ويحس منها صاحبها نوع غبية وهيبة وكيفية أخرى تشبههما. ولكن من لم يذق لم يدر ومع ذلك فيه حكمة بليغة تقتضي تمهيد "مقدمة"، وهي: أن الله تعالى قد يقدر لأنبيائه أمورًا يلقيها عليهم تكوينًا لمصالح لا يعلمها إلا هو كما ألقى على موسى عليه السلام من الغضب ما على أن يجمح خلف الحجر الذي كان وضع عليه ثيابه عند =