(جَاءَهُ الحقّ) أي جبرائيل عليه السلام، أو المراد أنه انكشف له الحال الآن، وتحقق جليًا أن سماعَ الصوت ورؤية الضوء وسلام الحجر وغيرها، كان تمهيدًا للأمر الذي بُعث به.
(اقرأ) ليس من باب التكليف، بل من باب التَّلقين والتلقي لما يقوله، كما إذ يَحْضُر الصبيُّ قِبَل المعلِّم وكتابُهُ معه، فيقول له أستاذه: اقرأ، لا يريد بذلك تكليفه بالقراءة، ولكنه يكون تلقينًا له أن أقرأ كما أقرأ لك الآن [1].
(ما أنا بقارىء) واختُلف في هذا التركيب إنه مفيد للقصر أم لا، وذهب السكَّاكي إلى أنه يُفيد القصر، وهو المختار عندي، ولكنه ليس بمطَّرِد. قيل: (ما) في المرة الأولى نافية، أي لستُ بقارىء، وفي البواقي استفهامية، أي أيَّ شيء أقرأ؟ والأرجح عندي أنها كلها نافية، وترجمته: "مين وه شخص نهين جس سى قراءت هوسكى".
(فغطَّني) ذكر العلماء: أنه كان ضَرْبًا من التنبيه. وقال الصوفية - كَثَّرهم الله تعالى -: إنه كان للإلقاء في القلب، وللتقريب إلى المَلَكِيّة وإحداث المناسبة بها، وفيه أن للمعلِّم حقًا على المُتعلِّم.
فقال: {اقرأ بسم ربك} ... إلخ [2] وإنما أضاف لفظ الاسم ولم يقل: اقرأ بربك، تبرُّكًا باسمه تعالى، فكما أن ذاتَه مَجْمَعُ البركات، كذلك صفاتُهُ وأسماؤه تعالى، فأدخل لفظَ الاسم وتبرَّك به إيذانًا بذلك، وإنما بدأ بالقراءة لأنها الأهمُّ إذ ذاك، وأما اسمُ الله تعالى فيصلحُ لبداية جميع الأمور، وليس له اختصاصٌ بشيء دون شيء.
الكلامَ في أولِ السُّورِ نُزُولًا
واعلم أنه اختُلف في أول ما نزل من القرآن، فقيل: وهو الصحيح: أنه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ}، وهو الظاهر من هذا السياق، وله أدلة أخرى، مذكورة في موضعها. والقول الثاني: {يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ}، ويُؤيده ما في الصحيحين، عن أبي سَلَمة عن جابر: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو يُحدِّث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: «بينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فإذا المَلَكُ الذي جاءني بحِراءَ جالسٌ على كرسي بين السماء والأرض، فرجعت فقلت: زمِّلوني فدثَّروني، فأنزل الله: {يأَيُّهَا الْمُدَّثّرُ}. [1] قلت يؤيده ما عنده الحافظ في التفسير رواية قال: أتاني جبريل نمطًا من ديباج فيه كتاب، فقال اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، قال السهيلي: قال بعض المفسرين: أن قوله آلم ذلك الكتاب إلخ، فيه إشارة إلى الكتاب الذي جاء به جبريل، حيث قال له اقرأ. [2] فلما قال ثلاثًا ما أنا بقارىء، قيل له اقرأ باسم ربك، أي لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك، لكن بحول ربك وإعانته، فهو يعلمك كما خلقك، وكما نزع عنك علق الدم ومضمر الشيطان في الصغر، وعلم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت ... ذكره السهيلي كذا في الفتح.