مقدمة ابن القيم في حاشيته على سنن أبي داود
قال الشيخ الإمام العلامة شمس الدين أبو بكر محمد بن القيم الجوزية الحنبلي غفر الله له: [الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وإله المرسلين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، ومحجة للسالكين، وحجة على جميع المكلفين، فرق الله برسالته بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، والشك واليقين، فهو الميزان الراجح الذي على أقواله وأعماله وأخلاقه توزن الأخلاق والأعمال والأقوال، وبمتابعته والاقتداء به يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، أرسله على حين فترة من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق، وأوضح السبل، وافترض على العباد طاعته ومحبته وتأزيره وتوقيره والقيام بحقوقه، وأغلق دون جنته الأبواب، وسد إليها الطرق، فلم يفتح إلا من طريقه، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: هذا فيه بيان أنه ليس هناك طريق يوصل إلى الله عز وجل إلا من طريق الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن تعبد الله بغير الشريعة التي جاء بها الرسول عليه الصلاة والسلام فعبادته باطلة، فقد سدت الطرق التي توصل إلى الله إلا من طريق الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام هو الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ الرسالة، ولكن ليس هناك واسطة بين الله وبين خلقه في دعائه وعبادته والتضرع إليه؛ لكن الرسول عليه الصلاة والسلام واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ الكتاب والرسالة.
قال ابن القيم رحمه الله: [وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، هدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة، وأرشد به من الغي، وفتح به أعيناً عمياً وآذانا صماً وقلوباً غلفاً، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، لا يرده عنه راد، ولا يصده عنه صاد؛ حتى سارت دعوته مسير الشمس في الأقطار، وبلغ دينه ما بلغ الليل والنهار؛ فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين صلاة دائمة على تعاقب الأوقات والسنين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن أولى ما صرفت إليه العناية، وجرى المتسابقون في ميدانه إلى أفضل غاية، وتنافس المتنافسون فيه، وشمر إليه العاملون: العلم الموروث عن خاتم المرسلين ورسول رب العالمين، الذي لا نجاة لأحد إلا به، ولا فلاح له في داره إلا بالتعلق بسببه، الذي من ظفر به فقد فاز وغنم، ومن صرف عنه فقد خسر وحرم؛ لأنه قطب السعادة الذي مدارها عليه، وآخية الإيمان الذي مرجعه إليه، فالوصول إلى الله وإلى رضوانه بدونه محال، وطلب الهدى من غيره هو عين الضلال، وكيف يوصل إلى الله من غير الطريق التي جعلها هو سبحانه موصلة إليه، ودالة لمن سلك فيها عليه، بعث رسوله بها منادياً، وأقامه على أعلامها داعياً وإليها هادياً، فالباب عن السالك في غيرها مسدود، وهو عن طريق هداه وسعادته مصدود، بل كلما ازداد كدحاً واجتهاداً ازداد من الله طرداً وإبعاداً؛ ذلك بأنه صد عن الصراط المستقيم، وأعرض عن المنهج القويم، ووقف مع آراء الرجال، ورضي لنفسه بكثرة القيل والقال، وأخلد إلى أرض التقليد، وقنع أن يكون عيالاً على أمثاله من العبيد، لم يسلك من سبل العلم منهاجها، ولم يرتق في درجاته معارجها، ولا تألقت في خلده أنوار بوارقه، ولا بات قلبه يتقلب بين رياضه وحدائقه، لكنه ارتضع من ثدي من لم تطهر بالعصمة لبانه، وورد مشرباً آجناً طالما كدره قلب الوارد ولسانه].
الماء الآجن هو: الماء المتغير.
قال رحمه الله: [تضج منه الفروج والدماء والأموال إلى من حل الحلال وحرم الحرام، وتعج منه الحقوق إلى منزل الشرائع والأحكام].
يتكلم الشيخ رحمه الله عن هؤلاء المنحرفين الذين أحلوا ما حرم الله، وحرموا ما أحل الله.
قال رحمه الله: [فحق على من كان في سعادة نفسه ساعياً، وكان قلبه حياً واعياً، أن يرغب بنفسه عن أن يجعل كده وسعيه في نصرة من لا يملك له ضراً ولا نفعاً، وألا ينزلها في منازل الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً؛ فإن لله يوماً يخسر فيه المبطلون، ويربح فيه المحقون: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} [الفرقان:27] {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء:71]، فما ظن من اتخذ غير الرسول إماماً، ونبذ سنته وراء ظهره، وجعل خواطر الرجال وآراءها بين عينيه وأمامه، فسيعلم يوم العرض أي بضاعة أضاع، وعند الوزن ماذا أحضر من الجواهر أو خرثي المتاع].
يعني: هل أحضر شيئاً نفيساً، أو شيئاً سافلاً تافهاً؟! قال رحمه الله: [فصل: ولما كان كتاب السنن لـ أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني رحمه الله، من الإسلام بالموضع الذي خصه الله به؛ بحيث صار حكماً بين أهل الإسلام، وفصلاً في موارد النزاع والخصام، فإليه يتحاكم المنصفون، وبحكمه يرضى المحققون، فإنه جمع شمل أحاديث الأحكام ورتبها أحسن ترتيب، ونظمها أحسن نظام مع انتقائها أحسن انتقاء واطراحه منها أحاديث المجروحين والضعفاء.
وكان الإمام العلامة الحافظ تقي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري رحمه الله تعالى قد أحسن في اختصاره وتهذيبه، وعزو أحاديثه وإيضاح علله وتقريبه، فأحسن حتى لم يكد يدع للإحسان موضعاً، وسبق حتى جاء من خلفه له تبعاً، جعلت كتابه من أفضل الزاد، واتخذته ذخيرة ليوم المعاد، فهذبته نحو ما هذب هو به الأصل، وزدت عليه من الكلام على علل سكت عنها أو لم يكملها، والتعرض إلى تصحيح أحاديث لم يصححها، والكلام على متون مشكلة لم يفتح مقفلها، وزيادة أحاديث صالحة في الباب لم يشر إليها، وبسطت الكلام على مواضع جليلة؛ لعل الناظر المجتهد لا يجدها في كتاب سواه، فهي جديرة بأن تثنى عليها الخناصر، ويعض عليها بالنواجذ، وإلى الله الرغبة أن يجعله خالصاً لوجهه، موجباً لمغفرته، وأن ينفع به من كتبه أو قرأه أو نظر فيه أو استفاد منه، فأنا أبرأ إلى الله من التعصب والحمية، وجعل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تابعة لآراء الرجال، منزلة عليها مسوقة إليها، كما أبرأ إليه من الخطأ والزور والسهو، والله سبحانه عند لسان كل قائم وقلبه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب].