ومن هنا كره فريق من السلف الصالح من الصحابة والتَّابِعِينَ كتابة الحديث كَيْلاَ يُتَّكَلَ على الكتابة وحدها فتضعف مَلَكَةُ الحفظ، أخرج ابن عبد البر في "جامع بيان العلم " [1] بسنده إلى إبراهيم النخعي قال: «لاَ تَكْتُبُوا فَتَتَّكِلُوا». وقال أيضاًً: «قَلَّمَا كَتَبَ رَجُلٌ كِتَابًا إِلاَّ اتَّكَلَ عَلَيْهِ». وأخرج أيضاًً عن الأوزاعي: «كَانَ هَذَا الْعِلْمُ شَيئا شَرِيفًا إِذْ كَانَ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ يَتَلاقُونَهُ [2] وَيَتَذَاكَرُونَهُ، فَلَمَّا صَارَ فِي الْكُتُبِ ذَهَبَ نُورُهُ وَصَارَ إِلَىَ غَيْرِ أَهْلِهِ». قال ابن عبد البر: ... وَالَّذِينَ كَرِهُوا الْكِتَابَ كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَالنَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ وَمَنْ ذَهَبَ مَذْهَبَهُمْ وَجُبِلَ جِبِلَّتَهُمْ كَانُوا قَدْ طُبِعُوا عَلَى الْحِفْظِ فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَجْتَزِئُ بِالسَّمْعَةِ، أَلاَ تَرَى مَا جَاءَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «إِنِّي لأَمُرُّ بِالْبَقِيعِ فَأَسُدُّ آذَانِي مَخَافَةَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْخَنَا فَوَاللَّهِ مَا دَخَلَ أُذُنِي شَيْءٌ قَطُّ فَنَسِيتُهُ». وَجَاءَ عَنِ الشَّعْبِيِّ نَحْوَهُ، وَهَؤُلاَءِ كُلُّهُمْ عَرَبٌ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَحْنُ أُمَّةٌ أُمَيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسِبُ» وَهَذَا مَشْهُورٌ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ خُصَّتْ بِالْحِفْظِ، [كَانَ بَعْضُهُمْ يَحْفَظُ أَشْعَارَ بَعْضٍ] فِي سَمْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَفِظَ قَصِيدَةَ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:
أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ
فِي سَمْعَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَا ذَكَرُوا، والحادثة مشهورة في كتب الأدب والتاريخ.
3 - تَحْدِيثُهُ بِغَيْرِ مَا سَمِعَهُ:
وأما أن أبا هريرة «لم يكن يقتصر على ما سمع من رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل يُحَدِّثُ عنه بما أخبره به غيره، فقد روى أن رسول الله قال: «مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا، فَلاَ صَوْمَ لَهُ» فأنكرت ذلك عائشة وقالت: كان رسول الله يدركه الفجر في رمضان وهو جُنُبٌ من غير احتلام فيغتسل ويصوم، فلما ذُكِرَ ذلك لأبي
(1) " جامع بيان العلم وفضله ": 1/ 68. [2] كذا في الأصل ولعل صوابها «يَتَنَاقَلُونَهُ».
نام کتاب : السنة ومكانتها للسباعي - ط الوراق نویسنده : السباعي، مصطفى جلد : 1 صفحه : 337