موقف تعجز مؤثرات الحياة ومغرياتها أن تحول تلك الطاقة من نقيض إلى نقيض، من جاهلية، إلى إسلام، من شدة بغض، إلى تفان فى حب، من جبار فى الجاهلية، إلى
عادل فى الإسلام، كل ذلك فعلته تلك الآيات القرآنية التى جمعت بين الأسلوب الإنشائى فى النداء بكلمة: طه، وبين الإخبار بالنعم الجليلة التى أسبغها الله على عبده محمد، وهى نعمة القرآن والإسلام، وما به من سعادة، والتذكرة لأصحاب القلوب التى تخشى الله، والإعلام بخالق الأرض والسماء، والجدير بالعبادة، والإيمان، والطاعة. كل ذلك كان سبيلا إلى قلب عمر وعقله، فاستجاب لله، وكان سلاح الإسلام وعونه ضد الشرك وأعوانه.
موقف آخر يدل على تأثير القرآن فى النفوس المتفتحة لقبول الدعوة والاستجابة لكل معروف، فقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أول معلم للقرآن إلى المدينة بعد أن دخل بعض أهلها فى الإسلام، وهو مصعب بن عمير، فأخذ يعلمهم القرآن، وعلم بذلك سعد بن معاذ سيد الأوس، ففزع فزعا شديدا، ورأى أن هذه بداية لشىء خطير يزلزل من مكانته، فقال لابن أخيه أسيد بن خضير: ألا تذهب إلى هذا الرجل وتزجره؟! فلما ذهب إليه أسيد، قال له: ما جاء بك؟ وهدده، وقال له: اعتزل إن كان لك فى نفسك حاجة، ولكن مصعبا أجابه فى ثبات المؤمن، قائلا: أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره.
ثم أخذ مصعب يقرأ القرآن، وأسيد يسمع، فما قام من مجلسه حتى أسلم، ثم ذهب إلى عمه، وقال له: ما رأيت بالرجل بأسا، فغضب سعد، وذهب إلى مصعب ثائرا، فاستقبله مصعب بمثل ما استقبل به أسيدا، وانتهى الأمر بإسلام سعد الذى ذهب إلى قبيلته وجمعها، وقال: ما تعدوننى فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، فقال سعد: كلام رجالكم ونسائكم علىّ حرام حتى تسلموا، فأسلموا جميعا.
ويكفى أن هذه الآيات من كلام رب العالمين، الآمر بكل حسن، الزاجر عن كل معصية، الداعى إلى مكارم الأخلاق، الهادى إلى الصراط المستقيم، والمعجز بكل صوره وأشكاله الأسلوبية التى صيغ منها، فهو متنوع بين الأسلوب الخبرى والإنشائى، والإيجاز والإطناب، والأسلوب المباشر، والأسلوب القصصى، والأسلوب المعتمد على الوصف، والأسلوب الحكمى، والأسلوب القائم على ضرب المثل، إلى اللفظ المعبر، والتعبير المصور والمشخص، كل هذا التنويع جاء فى مقامه، ونجح فى تحقيق أهدافه،