افتراءات واتهامات اتخذت طريقها إلى شخص الداعى، وهو الرسول، ولم تتجه إلى صلب القرآن الكريم وما به من إعجاز، لعلمهم اليقينى أنه ليس من كلام البشر، وليس فى مقدورهم الإتيان بمثله، لذا كان من جانبهم التحذير لأنفسهم ولأصحابهم من الاستماع إليه، فقالوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:
26].
ومع شدة عداوتهم للرسول، وكفرهم بما جاء به، كانوا يتسابقون خفية إلى الاستماع لهذا القرآن، ثم إذا انكشف أمرهم، تعاهدوا على عدم الرجوع مرة ثانية، وكتمان هذا الأمر حتى لا يفتضح أمرهم أمام قريش.
كل هذا يدل على أن القرآن معجزة رسول الله العقلية ببلاغته، ووجوه إعجازه العديدة التى لا تقف عند لون معين، وطريق واحد، وقد عجز العرب عن الإتيان بمثله، ولكن أخذتهم العزة بالإثم، إذ كيف يخضعون لمحمد، ويتركون دين الآباء والأجداد، ويعبدون الواحد الأحد، ويتنازلون عما لهم من كبرياء؟ دفعهم ذلك كله إلى أن يقفوا من رسول الله موقف المحاربة والقتال؛ للصد عن سبيل الله، وقد يعرضهم ذلك إلى سبى نسائهم وأطفالهم، وقتل الرجال منهم، وبذل المال الكثير فى سبيل المعارك، وإعداد العدة لقتال المسلمين.
لماذا اختار العرب المشركون موقف المحاربة من محمد؟ اختاروا هذا الطريق، مع ما فيه من تضحية ودم ومال؛ لأنهم أنفوا أن يقروا بعجزهم أمام تحدى الرسول صلى الله عليه وسلم لهم فى كل وقت وحين بهذه الآيات القوية فى دلالاتها: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة: 23، 24]. وقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء: 88].
ولو كان هؤلاء الكفار من قريش وأتباعهم يظنون أن محمدا يستعين بغيره من القارئين والأحبار والرهبان، لأمكنهم أيضا أن يلجئوا إليهم ويستعينوا بهم، فلما لم يفعلوا ذلك، وآثروا أن يقفوا من محمد موقف المحاربة والنزاع، دلّ ذلك على أن القرآن معجز، وأن بلاغته ووجوه إعجازه عديدة، لا تقف عند حصر، فلا يستطيعون لها تقليدا، ويعجزون عن معارضتها.