ومتفاوتا. فمنها ما يشتمل عليه القرآن بمعناه الحقيقي دون أي تأويل أو مبالغة كعلوم الفقه والأصول والتفسير والبلاغة والقواعد واللغة. ومنها ما يشتمل القرآن على أصوله ومفاتيحه، بمعنى أنه ينبّه القارئ إليه ويرشده إلى كثير من كلياته وأصوله، ككثير من العلوم الكونية والفلكية، وعلم الطب والأبدان.
الوجه الثاني: أن القرآن هو الذي نبّه العرب والمسلمين إلى ضرورة الإقبال على هذه العلوم والأبحاث، بل هو المنطلق الأول لشيء اسمه «التدوين» في التاريخ العربي.
فالقرآن، كما قد رأيت فيما مضى، هو الذي أشعر الناس بضرورة وضع قواعد في النحو والإعراب، وهو الذي أشعرهم بالحاجة إلى وضع موازين وضوابط للبلاغة العربية ووجوهها، وهو الذي دعاهم إلى وضع الموسوعات اللغوية المختلفة، وهو الذي اضطرهم إلى تدوين شيء اسمه (علم الكلام) بما يشتمل عليه هذا العلم من قواعد البحث والمنطق لتعزيز الأدلة النقلية بالبراهين العقلية ثم لولا القرآن وما أدى إليه تدوينه والإقبال عليه، لما أقبلوا بعد ذلك إلى شيء من العلوم الكونية والتشريح والطب. وآية ذلك أن الذين نبغوا من العرب في هذه العلوم، إنما نفذوا إليها من دراساتهم القرآنية قبل ذلك، فأنت لا تكاد تقع على ترجمة واحد منهم إلا وتجده مفسّرا فقيها ذا باع طويل في القرآن وعلومه، كابن النفيس مثلا الطبيب العظيم وصاحب اكتشاف الدورة الدموية، فقد كان من قبل فقيها عظيما ألّف في الفقه والسيرة النبوية، وترجم له السبكي في طبقات فقهاء الشافعية [1].
والخلاصة إن بنية الحضارة العربية بما اشتملت عليه من علوم وفنون وفكر وابتكار، إنما قامت بتأثير القرآن وعلى ضوئه، ولا ينافي ذلك ما نعلمه جميعا من كيفية تسلسل الأحداث وارتباط الأمور ببضعها. إنما المهم أن تعلم أنه لولا القرآن لما كانت هذه المكتبة العربية التي نرفع الرأس بها اليوم عاليا.
وذلك معنى قولنا: القرآن يحتوي على علوم كثيرة جدا وهو معنى قول الزركشي السابق: كل علم من العلوم منتزع من القرآن. [1] انظر طبقات السبكي: 5 - 129.