وبالغ في النهي عن هذه العادة بقوله مخبرا: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا. أي كانوا قرناء للشياطين، وفيه إلماح إلى أن عادة تبذير المال وتبديده إنما تتمكن بتغلب الوساوس الشيطانية لا أكثر، إذ ليس من ورائه أي غاية أن مصلحة يحتاجها الإنسان.
* ولكن أرأيت لو لم يكن الإنسان موسرا بالمال الذي يعطي منه حق القرابة والمحتاجين فأعرض عنهم عجزا عن العون لا استكبارا عن أداء الحق؟ ... لقد عالج البيان الإلهي العظيم هذه الحالة بأسلوب بالغ الروعة إذ قال: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً: أي مهما اضطررت إلى الإعراض عنهم بسبب الفقر والعوز اللذين تتأمل بهما فرج الله ورحمته، فقل لهم في مكان ذلك كلاما سهلا ليّنا وعدهم وعدا جميلا، فالميسور هنا مفعول بمعنى الفاعل، أي يسر ضرّهم عليهم بكلامك الجميل لهم.
ولما أمر الله عزّ وجلّ في الآيات التي ذكرناها بالوفاء بحق الأقارب والمحتاجين ونهى عن تبديد المال فيما لا حاجة إليه، حتى لا يفوت بذلك أداء هذا الحق والقيام به، ناسب أن ينتقل الحديث إلى تقرير مبدأ جديد يتعلق بتنظيم الإنفاق ويضع قانونا عادلا له. والمبدأ الإلهي الذي يخاطب به كافة العباد في ذلك، هو أن يكون الإنفاق قائما على العدل بين التقتير والبخل المعيب من جانب، والإسراف والتبذير المقيت من جانب آخر. ولكن الأسلوب القرآني لا يعبّر عن هذا المعنى بهذه الطريقة المألوفة، وإنما يخرجه في صورة محسوسة متخيلة فيقول: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا. فقد صوّر البخل في مظهر اليد المربوطة إلى العنق فهي لا تكاد تنفك عنه، ومعلوم أن اليد أبعد ما تكون عن الآخرين حينما تكون مقيدة بهذا الشكل الغريب، وصوّر الإسراف بتلك اليد التي تظل ممتدة ومبسوطة لا تكاد ترجع إلى صاحبها أو تنقبض على شيء، ثم هدد من يلتزم بذلك التفريط أو هذا الإفراط بأن سيأتيه يوم يعود من دأبه هذا ليقعد منقطعا عن أسباب العيش والرزق، يتلقى اللوم من الله والناس على ما أفرط أو فرّط.