إمّا أن تؤمن بأن القرآن ليس أكذوبة سجّلها محمد صلّى الله عليه وسلّم على ربّه عزّ وجلّ وإنما هو كلام الله ووحيه إليه، بلّغه إلى الناس بصدق وأمانة. وعندئذ فإن التاريخ هو الذي يستمدّ من حديث القرآن وأخباره، وليس العكس، وليس لك من سبيل إلى الشك بأي حرف منه.
وإما أنك لا تؤمن به كلاما من عند الله عزّ وجلّ، مهما قامت أمامك الأدلة والبراهين، وعندئذ نقول لك: لقد دلّ التاريخ بعمومه ودلّت السيرة النبوية بخصوصها، على أن ما جاء به القرآن من أخبار الأمم البائدة كان شيئا يجهله العرب جهلا تامّا، وإنما كان يعلم بعضا منه أهل الكتاب الذين درسوا التوراة والإنجيل. وقد كان اليهود هم الذين يساكنون العرب في جزيرتهم، وكانوا- كما هو معلوم- ضنينين بما عندهم من هذه المعلومات، ولم يكونوا يبوحون بها إلى غيرهم بأيّ شكل ولأي سبب.
وهذه الحقيقة التي لا ينكرها أيّ مثقف منصف، هي التي كوّنت معنى الإعجاز في القصص القرآني، فقد كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم أميّا لم يقرأ كتابا ولا خطّه بيمينه ولم يدرس أو يتردد على واحد من أهل الكتاب، وكانوا كما قلت ضنينين بكل ما عندهم.
وقد تجلى هذا الإعجاز أول ما تجلّى لهؤلاء الكتابيّين الذين عاصروا بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيث رأوا فيه أبرز برهان على صدق نبوّته ورسالته.
روى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال: بعث قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة ليسألوهم عن محمد، فخرجا حتى أتيا المدينة،
فسألا أحبارها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ووصفا لهم أمره وبعض قوله. فقالوا لهما: سلوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهنّ فهو نبي مرسل، وإلا فرجل متقوّل: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنهم قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّال بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فرجعا إلى قريش وأخبراهم بقول الأحبار، فجاءوا يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأسئلة الثلاثة فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أخبركم غدا عمّا سألتم، ولم يقل: إن شاء الله. فتلبث الوحي