فهمه سائر أصناف الناس وطبقاتهم، ولذلك تراه ينبّه الناس إلى أدلة الكون وما يشيع فيه من دقة النظام وروعة الخلق وجمال التنسيق، دون أن يعرض لشيء من الأدلة المنطقية الفلسفية أو العلمية التي تختصّ بفهمها فئات معينة من الناس، اللهمّ إلا أن تدل الآية على شيء من ذلك من وراء دلالتها على القدر المشترك الذي يفهمه الناس كلهم، ففي القرآن من ذلك كثير وقد مرّ بيانه فيما مضى.
وإذا تأملت في معالجة القرآن لموضوع العقيدة، فإنك قلّما تجده يعرض للدليل على أصل وجود الله عزّ وجلّ، وإنما هو يقرر وحدانيته وينبّه العقول إلى الأدلة المختلفة على ذلك. والسبب هو أن وجود الله عزّ وجلّ أمر مفروغ منه لا نزاع ولا حاجة إلى البحث فيه، وإنكار وجوده أو الشك فيه شيء لا يتصوره عقل عاقل. فهذا ما أراد القرآن أن يوحي به عند ما لم يعرض للاستدلال على أصل وجود الخالق عزّ وجلّ إلا في آيات قليلة. والحقيقة أن نزعة الحديث عن وجود الله والشك فيه أو فرض عدم وجوده، شيء لم يعرف إلا في القرون الأخيرة، أما فيما مضى فقد كان الإيمان بوجود الخالق جلّ جلاله أمرا مفروغا منه، أما مظاهر الضلال فإنما كانت تحوم حول تفسير هذا الخالق أو توهم تعدده ووجود شركاء له، أو توهم حلوله في الأفلاك العشرة أو العقول العشرة كما كان يتخيل بعض فلاسفة اليونان.
ثم كان لا بدّ من عرض العبر والآيات المختلفة التي مرّت مع التاريخ كي يستنير بها العقل في مجال اعتباره واستدلاله، وكي تتجلى مظاهر عظمة الله عزّ وجلّ وقدرته فيما سجله الزمن من واقع وأحداث. فمن أجل ذلك عرض القرآن لموضوع آخر هو: القصص، قصص الأمم الخالية وما آل إليه أمرها من الهلاك والدمار، وقصص كثير من
الأنبياء الذي تعاقبوا على الدعوة إلى دين واحد، وكرروا إبلاغ الناس حقيقة واحدة لم يختلفوا عليها ولم يتفرعوا عنها في طرائق متعددة أو متباينة. ولا نطيل الحديث عن القصة وكيفية عرض القرآن لها، فإن لذلك فصلا خاصا به سيأتي إن شاء الله.
ثم كان لا بدّ أن تقوم حياة الناس في دنياهم على نظام معين يضمن لهم