وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ، وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ، إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (الشعراء: 212).
وكما يوجد في الإنس من يحقدون على الحق مع العلم بأنه الحق، فيتمنّون لو أمكنهم إفساد صفة الإعجاز في القرآن بأيّ وسيلة ممكنة، كذلك يوجد في الجن من يحقدون مثل هذا الحقد، ويتمنّون مثل هذا التمنّي.
فلما لم نر إنسانا أوحى إليه من قبل أحد الجان بمثل القرآن، أو بمثل بعض منه، علمنا بدليل الواقع المشاهد أنه ليس من تأليف الجان ولا من إيحائهم.
وهكذا يتكامل دليل الاستقراء التام على أن هذا القرآن الذي تنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم، ليس من تأليف أحد من الناس الذين كانوا في عصره، وليس من تأليف جني نفثه في روعه أو ألقى به إليه.
فانحصر العقل عند ضرورة الإيمان بما يقوله ويقرره هذا القرآن نفسه، من أنه ليس إلا كلام الله عزّ وجلّ نزل به الروح الأمين على محمد صلّى الله عليه وسلّم ليكون خاتمة المنذرين إلى العالم كله وهو ما يؤكده البيان الإلهي بقوله عزّ وجلّ:
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (هود: 14).
ثم إن من أهم ما يزيد هذا البرهان التجريبي المحسوس والمشاهد، جلاء ويقينا، ما قد تعلمه من أن قلة من الناس حاولوا فعلا أن يأتوا بشيء من مثل القرآن في بلاغته ومضمونه، فقد كانوا يأنسون في أنفسهم من القدرة ما يجعلهم أهلا لهذه المغامرة. لكنهم ما إن أقدموا على ذلك حتى نزلوا عن المستوى الذي كانوا يقدرون عليه، وجاءوا بكلام بارد مضحك يسخر بعضه من بعض.
فمنهم مسيلمة بن حبيب الكذاب الذي تنبأ باليمامة في أواخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد زعم أن له قرآنا آخر يوحى به إليه. وقد نقلوا له من قرآنه هذا كلاما سخيفا في كلّ من مبناه ومعناه.