ثم إن قيل: الرَّاجحُ ما قَوِيَ دليلُه، بمعنى أن الدَّليل بِحَدِّ ذاته قويٌ ناهضٌ بالحُجَّةِ. إن عمل به لأنه مذهب مالك فقد تَقَوَّلَ على مالك، لأنه لا يصح في العقل أن مَن ظَنَّ رُجحان دليلٍ، صار ما ظَنَّهُ دالًا عليه الدليل -حسب فهمه- مذهبَ مالك، ويلزم منه أن يكون مذهب مالك مذاهب لا مذهب، فلا يَختبئ هذا المُرَجِّح خلف مالك، وليُصرح بأنه يرجِّح لذات الدَّليل بلا التفاتٍ لمالك. وإن قال إنما آخُذ بما قوي دليله من قول مالك، هذا أيضًا أخذٌ بالرَّأي المُقوَّى عندَهُ هو لا رأي مالك؛ لأنه ليس من طرق معرفة نسبة القول لقائله أن يكون هذا القول قويًّا دليلُه عند النَّاظر، إنما النَّظر في النَّاقل عن الإمام والقرائن لا مُطلق قوَّةِ الدَّليل، وتقدَّمَ أن الرُّجحان في الدَّليل عند فلان وفلان من نُظَّار المذهب لا يلزم منه أن يكون راجحًا عند الإمام.
أما إذا اختُلِفَ في فهم نص الإمام بين الأصحاب، فالمَهْيَع هنا أن تورد تأويلات وتفسيرات عبارة الإمام التي حرَّرها أصحابه ونظار مذهبه، فينظر في قوتها من جهة دلالة عبارة الإمام، وتوافقها مع قواعده وأصوله وهو أمرٌ ليس بالهين. اهـ النقل بطوله [1].
قلتُ معقبًا: يظهر مما تقدَّم تقريره أن الفتيا عند المالكية تدور على قول الإمام مالك وما أفتى به، وعليه فلا غرو أن لا يفتي من يتقيد بالرواية عن إمام المذهب من كتاب كـ "التبصرة" و-كثيرٍ من الكتب المصنَّفة في المذهب- غيرها من كتب المتقدمين والمتأخرين ما لم تكن معنيَّة بتحرير قول الإمام [1] من المحرَّر الأقوى في التقليد ومعتمد الفتوى، لحسن بن عبد الرحمن الحسين، بحث غير منشور.