د ـ نقله شيئاً فشيئاً من جوّه الذي كان فيه، والذي يتمثل، أول ما يتمثل، باصدقاء السوء، وبطانة الدعوة إلى مسالك التمزق والضياع، ثم احاطته بأصدقاء مؤمنين يتحلون بأسمى معاني الخلق والفضيلة، يولونه من إخلاصهم ورعايتهم وخدمتهم له، ما يبعث في نفسه الأنس بهم، ويشعره بعظيم الفرق بين الصاحب في الطريق إلى الله والصاحب في أودية الضلالة والضياع.
إن على الداعي إلى الله عز وجل، إذا كان حريصاً على صاحبه أن ينضبط بالآداب والواجبات السلوكية في الإسلام، أن يشتد ويجد في أخذه بهذه الوظائف الأربع التي ذكرناها. فإنه إن استقام على ذلك حيناً من الزمن، تفتحت في نفسه مشاعر الرغبة في رحمة الله تعالى وألطافه، والرهبة من سخطه وعظيم عقابه. ولسوف يكون لهذه المشاعر أثر كبير في تزكية نفسه ونقلها من حالة الأمر بالسوء، إلى حالة من أحوال الطمأنينة والرضا.
وعندئذ ترى أنه هو الذي يبدؤك ـ في كثير من الخوف والقلق ـ بالسؤال عما يجب أن يفعل ويترك، في نطاق حياته السلوكية، ولسوف يستشعر سوء واقعه، ويحيا في أعماق نفسه دافع يلح عليه ان يصطلح مع الله عز وجل بالاقلاع عن معاصيه وبالتزام أوامره وارشاداته، ما أمكنه السبيل إلى ذلك.
فإذا وجدت بوادر هذا السمو النفسي لديه، وإقباله إليك بهذه المشاعر، فيكفيك أن تضع أمامه الأجوبة على أسئلته، بعد يقينك من معرفتها على وجهها الصحيح، تاركاً له أن يتصرف في الأمر حسب الحال التي ارتقت إليها نفسه، إنما المهم أن تلازمه في أخذه بذلك المنهاج الذي ذكرناه، بكل وسيلة حكيمة ممكنة.
إن النتيجة التي لابد أن ترقى إليها حال شاب التزم القيام بهذا المنهاج هي انضباطه الكلي بالسلوك الإسلامي، واصطباغ نفسه وانسها بآداب الإسلام وتعليماته، بدافع من مشاعر وإيحاآت نابعة من أعماق كيانه ونفسه. ومن هنا ترسخ أسباب الاستقامة لديه، فلا يكون مصيره كمصير ذاك الذي ألصقه مرشده بها إلصاقاً وتركه يرزح تحت أعبائها ثم قال له: سر على بركة الله!..
على أن الاستمرار في أخذ العلاج والارتباط الدائم بذلك المنهاج ضرورة لا مناص منها، لا في حق هذا الوافد الجديد إلى الاسلام وحده، بل في حق جميع المسلمين على اختلاف درجاتهم وقربهم إلى الله عز وجل.
فإن النفس البشرية ما تزال كما هي، في تطلعاتها وأهوائها وميولها، وإذا تركت حيناً من الزمن دون حراسة من تغذيتها بمشاعر الرغبة في رحمة الله وإكرامه، والرهبة من سخطه وعقابه، فإنها سرعان ما تستيقظ إلى أهوائها وانحرافاتها، وسرعان ما تعود إليها القوة على التمرد والبغي، فتقود صاحبها إلى مطارح الشقاء والهلاك.
وإذا كان الثبات على هذا العلاج هو وصية الله عز وجل لرسوله، يكررها في كثير من آياته، فما بالك بمن دونه من عامة الناس؟
أصغ ببصيرتك إلى هذه الوصية له:
(فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً، واذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلاً طويلاًَ) الدهر:25.
وإلى هذه الوصية الثانية:
(فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ومن الليل فسبحه وأدبار السجود) ق:40
وإلى هذه الوصية الأخرى:
(وأذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال، ولا تكن من الغافلين) الاعراف 204
...
والخلاصة أن الكيان الإنساني ينهض على دعامتين عظيمتين، هما العقل، والوجدان. فأما مبادئ الإسلام الاعتقادية، فإنما تكون الدعوة إليها بتنبيه العقل وارشاده، وأما أحكامه وآدابه السلوكية فإنما تكون الدعوة إليهما بإيقاظ مشاعر الرغبة والرهبة في طوايا الوجدان. ولا يكون ذلك إلا باتباع الوسائل التي سبق بيانها.
ثم إن المهم، كما أوضحنا عند الحديث عن منطلقات الدعوة، أن تجتث نوازع العصبية ممن تدعوه إلى الله، باجتثاثها قبل كل شيء من أغوار نفسك، وأن تحرره من أنانيته وانتصاره لذاته، بتحرير نفسك منهما قبل كل شيء. وعندئذ يصفو طريق الحوار بينك وبينه من جميع الكدورات والشوائب، ونفذ حديثك إلى عقله بالقناعة واليقين، ثم إلى قلبه بالتأثر والانشراح.
والله وحده المستعان في كل ذلك.