.. وإنما كان الأمر كذلك: لأن حجية الكتاب إنما جاءت من ناحية أنه وحى من عند الله تعالى. ولا دخل للأمور المذكورة فيها. فلو لم يكن الكتاب معجزاً ولا متعبداً بتلاوته، وثبتت الرسالة بغيره من المعجزات؛ لوجب القول بحجيته؛ كما كان الأمر كذلك فى الكتب السابقة والسنة المطهرة مساوية للقرآن من هذه الناحية؛ فإنها وحى مثله. فيجب القول بعدم تأخرها عنه فى الاعتبار. ثم إن التحقيق عند علماء الكلام: أن الرسول لا يشترط فى رسالته نزول كتاب، بل الشرط: إنما هو نزول شريعة ليبلغها الأمة، وإظهار المعجزة على يده، كما هو بين فى شرح العقائد النسفية وحواشيه [1] .
... ويدل على ذلك أيضاً: أن الله تعالى أرسل موسى - عليه السلام - إلى فرعون؛ ليأمره بالإيمان به، والاهتداء بهديه، وإرسال بنى إسرائيل معه. ولم يكن قد نزل عليه – فى ذلك الحين – التوراة: لأنها إنما نزلت بعد هلاك فرعون، وخروج بنى إسرائيل من مصر –كما هو معلوم – ومع ذلك قامت الحجة على فرعون بهذا الأمر: لما أقام له موسى –عليه السلام- المعجزة، فلما خالفه اعتبر عاصياً ربه، مستحقاً اللعنة، والعذاب.
فحجية الوحى الغير المتلو لا تتوقف على ورود المتلو بها: لأن كلا منهما من عند الله. وهذا تثبته المعجزة - قرآناً أو غيره - المثبتة لعصمة الرسول صلى الله عليه وسلم فى تبليغ ما جاء به عن الله تعالى.
... ولو سلمنا استلزام الفرعية للتأخر مطلقاً، لقلنا: إن ما كان أقل من سورة لم تثبت قرآنيته إلا بقوله صلى الله عليه وسلم: هذا كلام الله، كما تقدم بيانه فى مبحث العصمة [2] . فعلى هذا يقال: إن الكتاب متأخر عنها فى الاعتبار؟
... بل الحق: أن كلاً منهما معضد للآخر، ومساوٍ له: فى أنه وحى من عند الله، وفى قوة الاحتجاج به، وأنه لا يؤثر فى ذلك نزول لفظ الكتاب ولا إعجازه، ولا التعبد بتلاوته، ولا أنه قد ورد فيه ما يفيد حجيتها. [1] 1/54. [2] راجع: ص 444، 445.