لأجير فقير يعمل عنده يقوم بأمر غنمه مقابل أن تتربى شاته تطعم من طعام غنمه، ويبدو أن الشاة بورك فيها وأصبحت بحال طيب لفت نظر الغني صاحب التسعة والتسعين، فأراد أن يضمها إلى غنمه، ويجعل صاحب الشاة مجرد أجير، يعوض عنها بشيء ولا يكون له في الغنم شيء، ومكنه وضعه أن يضغط على صاحب الشاة ترغيبا أو ترهيبا، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} ، أي خاطبني بما تأكدت به من إصراره على ما يريد، وأنا أريد أن تبقى شاتي لي.
وسواء كانت صورة الدعوى هكذا حدثت في الواقع، أو وضعت لضرب المثل للقضايا الصعبة السريعة التأثير في نفس القاضي- الله أعلم- فإنها قد أخذت الشكل المتوقع، خصوصا لدى القلوب الحانية التي تستقر بين جنوب الأنبياء صلوات الله عليهم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
ومن هنا كان النطق بالحكم من داود عاجلا وسريعا بسرعة نسبة واحدة إلى تسعة وتسعين {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} ، والعجب أن حنو داود قد فاض بالحكم لذي النعجة مع أنها لا زالت في حوزته ولم تنزع منه بعد، وألصق جناية الظلم بخصمه لمجرد أن سأله نعجته {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} ، فكيف لو اتبع السؤال بالاستيلاء؟، إنها من حيث الأساس رأفة تليق بنبي صفي، ولكن في هذا الموضع وهو مقام تمحيص الحقوق، لا بد أن تقترن الرأفة بالتروي والتأني، حتى تدرس القضية بكل المتخاصمين وبكل الشاهدين، وهذا لم يفعله داود عليه السلام، ومع أنه قدم حيثيات الحكم الصحيحة لما قال: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ، فهذا تقرير لأمر يلابس الناس دواما، خاصة شركاء المادة، لغلبة سوء الظن على حسنه، بأن شريكه ليس كفئا له، أو يحتوي على حظ أكثر من حقه، ومن هنا يأتي بغي بعض على بعض، ويستمر القرآن في تقدير الأمر يجريه الأمر سبحانه على لسان هذا النبي الكريم، حيث لم يدخل في الكثرة التي تبغي على بعضها أولئك الذين آمنوا بربهم، فراقبوه متبعين ما أحل مجتنبين ما حرم، ولما كان الوصف الكمي للباغين هو الكثرة، فلابد أن يكون العكس هو القلة {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} .
بيد أن هذا القول الحق لم يعف داود عليه السلام من نتائج حكمه غير المسدد وسبب عدم تسديده أمران، أولهما مطاوعته لرقة قلبه لوضع ذي النعجة الواحدة، خاصة أنه الشاكي، ولا يغلب على الشعور إلا أن الشاكي هو المعتدى عليه في أي الاحتكام يقع بين خصمين، فتعجل عليه السلام بإصدار الحكم لصالح الشاكي قبل أن يسمع دفاع لمشكو تجاه شاكيه وهذا أمر لا يمكن أن يبيحه الله الذي شدد فرضية العدل في ملكوته،.
والأمر الثاني الذي جعل الحكم غير مسدد هو- والله أعلم- أن داود عليه السلام وهو يؤدي أول اختبار في الفصل في القضايا، دفعه الحنان أيضا إلى عدم انتظار توجيه السماء، فما كان مرسله سبحانه يدعه ليحيد، فكان عليه وهو نبي من أهل الوحي أن ينتظر حتى تهبط عليه طريقة الفصل في المنازعات لتصبح الركائز المعروضة فقط وقتئذ.
فكانت نتيجة امتحان داود في نهاية الموضوع هو قوله سبحانه {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} ، والظن هنا بمعنى الإدراك والعلم، وبالصورة التي أعلمه بها، وليس بخرافات الإسرائيليات التي أترعت بها التفاسير الغثة، عندما وقع في مصيدتها عشاق الأقاصيص، {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} امتحناه وما جفيناه، حيث قبلنا سجدته وغفرنا هفوته وأحسنا أوبته {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} ذلك لأن الدرس أفاض عليه كامل المعرفة بأسرار القضايا وخبايا المشاكل البشرية التي سيظل الإنسان يتخبط فيها بسبب ماديته المتأصلة فيه، وبعده عن الروحية المتوادة المتسامحة.