عليه، ومن هنا يأتي العدل في صورة حكم،
يصدر من حكم صفته الحكمة التي لا تنثني ولا تميل، ثم من قرائن اهتمام الآية خاصة بحديثها عن الإنسان كلمة {بَيْنَ النَّاسِ} ، فإذا ما جاء بعدها ما يدل على أن الناس حكم بينهم بالعدل، كان ذلك عملا بموعظة جليلة الخطر عظيمة الأثر، مدحها الله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} نعم ما يفيدكم به، ذلك أنه ما من شيء يذهب الغيظ ويجمع الشتات ويقيم المجتمعات على التآخي أكثر من العدل.
ولهذا كان الإمام العادل ضمن أنواع سبعة فقط من عباد ممتازين، لا يلفح وجوههم اللهب يوم الحر الأكبر، حيث استظلوا ببرد الظل الأعظم دون سواهم، ثم يختم سبحانه آيته الكريمة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} ، فهذه الكينونة الملازمة له سبحانه أزلا ودواما، كينونة اتصاف بكل كمال، وتنزيه عن كل نقص، ومنها ما ذكره هنا بصيغة المبالغة {سَمِيعاً بَصِيراً} ، فهو سميع لما يقال سرا أو علنا، بصير بما يعمل جهرا أو خفاء، وعلى قاعدة أن نهايات الآيات لا بد من ارتباطها بما يذكر فيها، فإن رد العباد على الذي أمرهم به في الآية سيكون قولا يدل على الاستعداد للعدل أو عكسه، وهذا القول إما بصوت أو بهمس، وهو في الحالين سميع، ثم ينتقل الأمر من القول إلى العمل، فإن كان القول طاعة تبعه العمل بالعدل، وإن كان القول معصية فلا عدل وكان الظلم، ثم المثوبة أو العقوبة، فمستحيل أن يأمر الله بشيء ثم يترك أثره هملا، هذا هو العدل الذي يقتضي بحفظ الحقوق ونزاهة إصدار الأحكام، بصورة ما ترامى إلى الآذان شبيه لها، ذلك لأنها من الحكم العدل العظيم أحكم الحاكمين.
فأيهما أنفع للإنسان، حقوق وضعها لنفسه هو طامع أن يسلبها من غيره، أم حقوق من خالقه لا طمع له فيها لأنه المنزه عن الاحتياج لغيره؟.
تحليل لآية ثانية: يقول الحق المبين:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأََقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .
بدأت الآية بنداء، فمن المنادي؟، ومن المنادون؟، وما هو المطلوب من النداء؟
المنادي هو أحكام الحاكمين، والمنادون هم المؤمنون به المطيعون له، ولن يكون ردهم على راحمهم وقد آمنوا به إلا لبيك خير المنادين، فلن يكون نداؤك إلا الخير لنا أجمعين.
وما هو المطلوب من النداء؟ آمركم أن تكونوا ملازمين قائمين أبدا بالعدل، ولهذا بالغت في صورة اللفظ {قَوَّامِينَ} فالعدل أمر قائم لا ينقطع، وهكذا اجعلوه بينكم لا يخل ميزانه ولا يختل أركانه، والعدل من أهم ما يظهره ويقيمه إذا ما أريد حجبه من المتخاصمين، بالإنكار أو بليِّ اللسان بزخرف الكلام، هو الشهادة بالواقع الصحيح الذي رئي أو سمع، {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} ، وكلمة شهداء أتت بعدها كلمة {لِلَّهِ} لتؤدي معنيين، أولهما، وأنت تشهد سواء كنت مدعوا أو متطوعا، أن تؤديها وأنت مراقب لله، فاستحضارك مراقبة الله أثناء الشهادة سيجعلك تقول الصدق الذي يظهر الحق، وثاني المعنيين أن تقصد بهذه الشهادة مثوبة الله ورضاه، وليس أجرا من أحد المتخاصمين تعطاه، أو ثناء من الحاكم أو القاضي الذي أعنته بشهادتك على إعلان الحق وخذلان الباطل فهذان المعنيان إذا حضرا الشاهد أثناء شهادته، كان العدل أصفى وأنقى عندما يستعمل لتؤدى به الحقوق، ثم تستمر الآية قائلة {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأََقْرَبِينَ} ، مراتب ثلاث، بدأ بأعلاها سبحانه وانتهى بأدناها، فليس لدى النفس، ولو كان غير النفس أبا أو أما، فإذا ما هيمن الشاهد على نفسه وقتل فيها حب الإيثار الملازم للنفوس عادة، فيصبح انتصاره في المرتبة الثانية أيسر وأسهل، ولهذا ذكرت الآية الوالدين بعد النفس {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} ، فهو مستعد أن يشهد على والديه وقد شهد على ما هو أعز