وبعد الذي قدمه القرآن عن نبينا وعن نوح صلوات الله عليهما، وهما الرسولان اللذان حصرا الدنيا بكاملها بين رسالتيهما نسأل: أيهما أرفع وأنفع، وأكرم وأدوم، ما وضعه الله للإنسان، أم ما وضعه الإنسان لنفسه.
لقد مشت على هذا الصراط أمتنا الإسلامية سنين عديدة، لم يقم وزنا لحسب ولا عصب، اختفت في مجتمعها القومية وارتقت الربانية، إلى أن بدأ المسلمون ينسلَون من دينهم رويدا عصرا بعد عصر، وبدأ ثعبان العصبيات والقوميات يخرج من حجره، والذي حبسته في حجره طويلا تعارف الإنسان وأخوة الإسلام، إلى أن جاء عصرنا فحرص أعداء الإسلام والمستعمرون الذين احتلوا معظم رقعه الأرض الإسلامية أحقابا طوالا، ألا ينجابوا عنها إلا بعد أن يوقظوا فيها حمية القومية، فنودي على الفور بعد جلاء الخبثاء المفرقين بالقومية العربية، قبل أن يسبق أحد بنداء الإسلامية، وساد نداء القومية الجاهلية. وكان قد قدم لها بعمل ثابت وهو إنشاء الجامعة العربية في عصر احتلال الإنجليز للأرض العربية كلها تقريبا. وصرخت أصوات مسلمة مخلصة إبان ذلك تطالب بجعلها جامعة إسلامية لتوصد الباب على تحريك القوميات مستقبلا، وليجتمع فيها العالم الإسلامي كله، عسى أن يكون ذلك تمهيدا لعودة الخلافة الإسلامية لتعود بها قوة المسلمين لما وحدوا تحت الحكم بالقانون القرآني، لكن هذه الأصوات المخلصة أهملت ولم يصغ إليها، وغلبت فكرة الجامعة العربية الإسلامية، وأتى بعدها تبعا شعار القومية العربية وليست الأخوة الدينية، والآن تم للأعداء ما أرادوه من إيقاظ التفرقة والتمييز، حيث نظر بقية العالم الإسلامي إلى العرب نظرة الحذر والخيفة، فلم يشتركوا معنا نحن العرب إلا بالقرارات في المؤتمرات، ولم يطلقوا [1]معنا رصاصة واحدة لما أخذ اليهود بتلابيبنا، والحق لهم لأننا أغفلناهم وجعلنا لأنفسنا جامعة تختص بنا، وقومية نتميز بها.
وفي ظل الجامعة العربية والقومية دخلت الشيوعية عدوة الإسلام الأولى أرض العرب وانتشرت، بل سادت وحكمت، وفي ظل ذلك أيضا اشتعلت الخصومات بين العرب، بل وتقاتلت دولهم بالجيوش، وفتك أبناء العم ببعضهم بالآلاف، في حروب شبه مستمرة مستعرة، وتتجدد هنا وهناك في عرض أرض العرب وطولها، وفي ظل الجامعة العربية والقومية العربية تجري مؤامرات العرب الصليبيين في لبنان لحصر المسلمين هناك بين فكي عبدة العجل اليهود، وعبدة الصليب النصارى، وذلك بمساعدة الدول المسيحية الصليبية.
وفي ظل القومية العربية وقعت بنا أشنع رزية، لما أصيبت أمتنا الإسلامية في أحشائها بضياع قدسها وما حوله من ملك إسلامي عريض قدمه إلينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوة زنودهم لما جمعتهم جامعة إسلامية، وأضعناه في عصر القومية العربية.
وليمشي المكر السيئ من أعدائنا بلا توقف، جعلوا قضيتنا مع اليهود إقليمية وليست عقدية، حتى لا تتحرك لها مشاعر صاحب الإسراء صلوات الله عليه، فدرجوها من قضية القدس المقدس إلى قضية فلسطين، ثم إلى أزمة الشرق الأوسط، ولأننا أصبحنا إقليميين قوميين تقبلناها منهم بسرعة، واستقر الأمر على أنها مجرد أزمة وتزول، وأصبحنا جميعا على كل مستوى نرددها، فلم تعد قضية إسلامية ولا حتى عربية، وقل أن تذكر فلسطينية، وإنما هي أزمة الشرق الأوسط، ولا زلنا وحدنا نبتلع غم هذا الكرب العظيم، وراح من أوقعنا في فخ هذه القومية ينظر ضاحكا متشفيا، فهل بعد هذه النكبات المبكية نتحد في جامعة إسلامية، وفيما نزل بنا من عقاب الله كفاية {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} .
ولكن من المؤكد أنه سيعز دين الله، وسيطرد اليهود إن شاء الله من قدسنا مذؤومين مدحورين، ولو لينتقم سبحانه لنفسه منهم لتطاولهم عليه، وليس لأجل العرب والمسلمين الذين عاهدوهم وأعطوا الدنيئة في أنفسهم ودينهم، وما كانوا اليوم أوفى من ماضيهم الغادر، لما عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم خانوه، فما كان لليهود يوما دولة ولن يكون، فيكم قرناء الذلة والتيه، وثلاثون عاما أو زهاء ليست شيئا في أعمار الأمم حتى يحسب بها لليهود دولة، والانتظار لن يطول بما ليس في حسبان أهل التشاؤم والوهن والخنوع إن شاء الله، [1] بل حاولوا ولم تسمح لهم الدول العربية بذلك تعميقا لمعنى القومية العنصرية.