المصدر الثاني: السنة المطهرة
المصدر الثاني من مصادر التربية: السنة المطهرة وهناك صنف خبيث يدندن حول القرآن دون السنة، ويقولون: إننا لا ننكر القرآن، ونريد أن نأخذ بالقرآن، ولكن السنة فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها الموضوع، فلا داعي إذاً للأخذ بالسنة، ويكفينا أن نأخذ بالقرآن، ولا يدري أنه إذا أخذ القرآن وضيَّع السنة فقد ضيع القرآن والسنة معاً.
وقد قال الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ذلك، وبيّن أنه سيأتي من أبناء الأمة من يقول هذا، كما في الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك، وصحح إسناده شيخنا الألباني من حديث المقدام بن معد يكرب، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) وفي رواية: (ألا إن ما حرم الله كما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلا بد -أيها الأحبة- من السنة مع القرآن، بل لقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة والحاكم في المستدرك وصححه أيضاً الشيخ الألباني، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وأرجو الله ألا ننساها.
أقول: إذا كان كل طالب علم يتأثر بالمنهج الذي يدرسه، فما ظنكم إذا كان المنهج الذي يدرس هو القرآن والسنة؟! وإذا كان كل طالب علم يتأثر بأستاذه الذي يأخذ عنه فما ظنكم إذا كان الأستاذ هو محمد صلى الله عليه وسلم؟! شخصية النبي صلى الله عليه وسلم منهج تربوي متكامل، وسنته صلى الله عليه وسلم كذلك، ولا أستطيع أبداً أن أقف وأبين من خلال سيرته وحياته أركان وعناصر وبنود هذا المنهج التربوي الأصيل، بل سأكتفي بمثال واحد تربوي فذ لأبين لكم أن شخصيته صلى الله عليه وسلم كانت منهجاً تربوياً فريداً متكاملاً.
حديث رواه أحمد من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: [جاء شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله سؤالاً عجيباً غريباً] هل يا ترى جاء الشاب يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد في سبيل الله؟ أم جاء يسأله عن الإنفاق في سبيل الله؟ أم جاء يسأله في أن يخرج معه للغزو؟ كلا ولكنه جاء يسأل سؤالاً غريباً، أتدرون ما الذي سأله هذا الشاب؟ جاء ليقول لرسول الله: (يا رسول الله؟ أتأذن لي بالزنا؟!) ما غضب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ارتفع صوته، ولا احمر وجهه، ولا أمر الصحابة أن يحملوه من بين يديه ومن خلفه ليلقوه خارج المسجد ولكنه ابتسم في وجهه ابتسامة حانية مشرقة، ونظر إليه وقال: (ادن) واقترب الشاب من النبي صلى الله عليه وسلم، وفي همسات تربوية حانية يقول له المربي الأعظم، والأستاذ الحبيب: (أترضاه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك.
قال: فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لأختك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك.
قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبه لابنتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداك.
قال: وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، وكذلك لعماتهم وخالاتهم) .
ثم بعد هذا كله مد الحبيب يده الحانية -فإنه بحر الرحمة، وينبوع الحنان، وأستاذ التربية- ووضعها على صدر هذا الشاب، وتضرع إلى الله بالدعاء وقال: (اللهم اشرح صدره، واغفر ذنبه، وحصن فرجه) أي تربية هذه يا إخوان؟! وكلكم يعلم قصة الأعرابي الذي جاء ليبول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكلكم يعلم قصة ماعز وكيف رده النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوبه، وكلكم يعلم قصة الغامدية وكيف ردها النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب، فهو نبي الرحمة، وينبوع الحنان.
والرسول صلى الله عليه وسلم شخصيته منهج تربوي فضلاً عن سنته، وإذا كانت العظمة تحب لذاتها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب لذاته فضلاً عن أنه رسول من عند الله جل وعلا، وهذا الحب بين المربي وطلابه والأستاذ وتلاميذه هو المفتاح الأول للتربية الصحيحة.
والله لقد أحب أصحاب النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم حباً ليس له في تاريخ العالمين نظير، فلقد جاء عروة بن مسعود الثقفي رسول من قبل قريش في صلح الحديبية، وقف يكلم النبي عليه الصلاة والسلام -وكان من عادة العرب إذا أرادوا أن يتوددوا إلى من يتكلمون معه أن يمد أحدهم يده ليعبث بلحية من يتكلم معه- فمد عروة بن مسعود يده ليداعب شعرات طيبات من لحية الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، وكان المغيرة بن شعبة رضوان الله عليه يقف عند رأس النبي عليه الصلاة والسلام يظلل عليه من الشمس، وبيده السيف، فإذا مد عروة يده ليداعب شعرات لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضربه المغيرة بنصل السيف على يده وهو يقول: [أخر يدك عن لحية رسول الله قبل ألا تصل إليك] يعجب عروة بن مسعود ويرجع إلى قومه ليسجل هذه الشهادة، ويقول: يا قوم! والله لقد وقفت على الملوك، ولقد أتيت كسرى في ملكه، والنجاشي وقيصر، والله ما رأيت أحداً يعظمه أصحابه كما رأيت أصحاب محمد يعظمون محمداً! والله إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا تكلم أنصتوا له، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه.
أحبوا النبي صلى الله عليه وسلم حباً ليس له في تاريخ الدنيا ولا في تاريخ العالمين نظير، فشخصية النبي صلى الله عليه وسلم فضلاً عن سنته منهج تربوي أصيل متكامل.
ومن أراد أن يتتبع سيرة المصطفى فسيجد المنهج التربوي الأصيل الذي به وعليه تربى الجيل الأول، ووالله لن نصل إلى ما وصلوا إليه إلا إذا عدنا إلى هذا النبع الصافي، وكيف لا وقد رباه الله على عينه ليربي به الدنيا، زكاه في عقله فقال: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2] وزكاه في صدقه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] وزكاه في صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] وزكاه في ذكره فقال: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] وزكاه في طهره فقال: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح:2] وزكاه في فؤاده فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] وزكاه في بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] وزكاه في معلمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] وزكاه في حِلْمه فقال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وزكاه كله فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] صلى الله عليه وسلم.