نام کتاب : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون نویسنده : حاجي خليفة، مصطفى جلد : 1 صفحه : 21
الثاني: وهو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدنيوية
وهو: وجداني، وذوقي، وجاهي رتبي.
والوجداني: إما راحة أو استيلاء، والراحة: إما من مشقة وجود ظاهر للنفس، أو من فقد سار لها بالأنس، وكل منها: إما خارجي، وإما ذاتي.
فالراحة: أربعة أقسام.
وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (وهو الأنيس في الوحشة..) ، إشارة إلى الأول، لأنه يريح بأنسه من كل قلق واضطراب.
وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (والصاحب في الغربة..) ، إشارة إلى الثاني، لأنه يقر من الغريب عينه، ويريحه من كمود النفس من الحزن وانكسارها، لفقد سرور الأهل والوطن.
وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (والمحدث في الخلوة ... ) إشارة إلى الثالث، لأن العلم يريح المنفرد عن الناس، بتحديثه من انقباض الفهم وخموده، وهو ألم ذاتي لأهل الكمال، وهذا هو السر في استلذاذ المسامرة والمنادمة.
وقوله - عليه الصلاة والسلام -: (والدليل على السراء والضراء ... ) أي: في الماضي والآتي، إشارة إلى الرابع، الذي هو فقد سار ذاتي، أي: أن العلوم تقوم مقام ذي الرأي السديد إذا استثير، إذ هو دال لصاحبه على السراء وأسبابها، وعلى الضراء وموجباتها، فالحيرة وجهل عواقب الأمور: مؤلم للنفس، ومضيق للصدر، لفقد نور البصيرة، فالعلم يريح من تلك الهموم والأحزان.
والاستيلاء: قسمان.
أحدهما: استيلاء يمحق الشر، ويدفع الضر، وإليه أشار قوله - عليه الصلاة والسلام -: (والسلاح على الأعداء..) ، فبالعلم يزهق الباطل، وتندفع الشبهة والجهالة.
قيل لبعض المناظرين: فيم لذتك؟ قال: في حجة تتبختر إيضاحا، وشبهة تتضاءل افتضاحا.
وثانيهما: استيلاء يجلب الخير، ويذهب الضير، وإليه أشار قوله - عليه الصلاة والسلام -: (والزين عن الأخلاَّء..) ، أي: أن العلم جمال، وحسن، وكمال، يجذب القلوب من الأخلاء كما قيل:
العلم زين، وكنز لا نفاذ له * نعم القرين إذا ما عاقلا صحبا
القسم الثاني: ما يجلبه العلم من الوجاهة والرتبة
وهي إما عند الله - سبحانه وتعالى -، وإما عند الملأ الأعلى، أو عند الملأ الأسفل.
الأول: أشار إليه قوله - عليه الصلاة والسلام -: (يرفع الله به أقواما..) ، أي: يعلي مقامهم ورتبتهم، فيجعلهم في الخير قادة وأئمة، أي: شرفاء الناس وسادتهم.
والقادة: جمع قائد، وهو: الذي يجذب إلى الخير مع الإلزام كالقاضي والوالي، الذين إلزامهما على الظاهر؛ وكالخطيب، والواعظ: الذين إلزامهما على الباطن؛ وكالأئمة: الذين بعلمهم يهتدى، وبحالهم يقتدى.
والثاني: أشار إليه قوله - عليه الصلاة والسلام: (يرغب الملائكة في خلتهم..) ، أي: لهم من المنزلة والمكانة في قلوبهم، ما استولى على غيوب بواطنهم، فرغبوا في محبتهم، وأنسوا بملازمتهم، وما استولى على ظواهرهم، فيتبركون بمسحهم.
والثالث: أشار إليه قوله - عليه الصلاة والسلام -: (يستغفر لهم كل رطب ويابس ... ) ، فشمل الناطق والنافس.
قيل: سبب استغفار هؤلاء، رجوع أحكامهم إليهم في: صيدهم، وقتلهم، وحلهم، وحرمتهم.
التعليم الأول: في لذته
اعلم أن شرف الشيء، إما لذاته، أو لغيره.
والعلم حائز للشرفين جميعا، لأنه لذيذ في نفسه، فيطلب لذاته، ولذيذ لغيره، فيطلب لأجله.
أما الأول: فلا يخفى على أهله أنه لا لذة فوقها، لأنها لذة روحانية، وهي اللذة المحضة، وأما اللذة الجسمانية، فهي دفع الألم في الحقيقة، كما إن لذة الأكل دفع ألم الجوع، ولذة الجماع دفع ألم الامتلاء، بخلاف اللذة الروحانية، فإنها ألذ وأشهى من اللذائذ الجسمانية.
ولهذا كان الإمام الثاني: محمد بن الحسن الشيباني، يقول عندما انحلت له مشكلات العلوم: أين أبناء الملوك من هذه اللذة؟
سيما إذا كانت الفكرة في حقائق الملكوت، وأسرار اللاهوت.
ومن لذته التابعة لعزته: أنه لا يقبل العزل والنصب، ومع دوامه لا مزاحمة فيه لأحد، لأن المعلومات متسعة مزيدة بكثرة الشركاء، ومع هذا لا ترى أحدا من الولاة الجهال إلا يتمنى أن يكون عزه كعز أهل العلم، ألا أن الموانع البهيمية تمنع عن نيله.
وأما اللذائذ الحاصلة لغيره، إما في الأخرى، فلكونه وسيلة إلى أعظم اللذائذ الأخروية، والسعادة الأبدية، وإما في الدنيا، فالعز، والوقار، ونفوذ الحكم على الملوك، ولزوم الاحترام في الطباع، فإنك ترى أغبياء الترك وأجلاف العرب، يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم، لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة، بل البهيمة تجدها توقر الإنسان بطبعها، لشعورها بتميز الإنسان، بكمال مجاوز لدرجتها، حتى إنها تنزجر بزجره، وإن كانت قوتها أضعاف قوة الإنسان.
الأول: وهو ما ينجلب بالعلم من المنافع الدينية
وهو: حقي، وخلقي.
أشار إلى نفعه الأول: قوله - عليه الصلاة والسلام - في الحديث السابق: (فإن تعلمه لله خشية ... الخ) .
وإلى نفعه الثاني: قوله - عليه الصلاة والسلام -: (وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة) .
القسم الثالث: ما يندفع بالعلم من المضار الدينية
وهو نوعان: فعل النواهي، وترك الأوامر.
فالأول: اتباع الشهوات المضرة، وأشار إليه قوله - عليه الصلاة والسلام -: (التفكر فيه يعدل الصيام..) ، أي: في كسره الشهوتين.
والثاني: الغفلة، والميل إلى الكسل، وأشار إليه قوله - عليه الصلاة والسلام -: (ومدارسته تعدل القيام..) ، أي: في نفي ما عرض في ذلك، لحصول التنبيه، والنشاط، والتذكرة، والانبساط.
القسم الرابع: هو ما يندفع بالعلم من المضار الدنيوية
وهو أيضا: نوعان.
الأول: دفع المصالح والمقاصد، وجلب المعايب والمفاسد، وإليه أشار قوله - عليه الصلاة والسلام -: (به توصل الأرحام ... ) ، أي: بالعلم توصل الأرحام بين الأنام، وتدفع مضرة القطيعة، وحقدهم وحسدهم، ومحاربتهم.
والثاني: مضرة اجتلاب المفاسد، برفض القانون الشرعي، العاصم من كل ضلال، وإليه أشار قوله - عليه الصلاة والسلام -: (وبه يعرف الحلال والحرام..) ، أي: بالعلم تبين أحدهما من الآخر، وهو أساس جميع الخيرات.
فتأمل: في بيان منافع العلم، وكيفية جوامع الكلم، وأكثر الصلاة على صاحبه - عليه الصلاة والسلام -. (1/ 22)
الإعلام الثالث: في دفع ما يتوهم من الضرر في العلم، وسبب كونه مذموما
اعلم: أنه لا شيء من العلم من حيث هو علم بضار، ولا شيء من الجهل من حيث هو جهل بنافع، لأن في كل علم منفعة ما في أمر المعاد، أو المعاش، أو الكمال الإنساني، وإنما يتوهم في بعض العلوم أنه ضار، أو غير نافع، لعدم اعتبار الشروط التي يجب مراعاتها في العلم والعلماء، فإن لكل علم حدا لا يتجاوزه.
فمن الوجوه المغلطة: أن يظن بالعلم فوق غايته، كما يظن بالطب: أنه يبرئ من جميع الأمراض، وليس كذلك، فإن منها ما لا يبرأ بالمعالجة.
ومنها: أن يظن بالعلم فوق مرتبته في الشرف، كما يظن بالفقه: أنه أشرف العلوم على الإطلاق، وليس كذلك، فإن علم التوحيد أشرف منه قطعا.
ومنها: أن يقصد بالعلم غير غايته، كمن يتعلم علما للمال، أو الجاه، فالعلوم ليس الغرض منها: الاكتساب، بل الاطلاع على الحقائق، وتهذيب الأخلاق، على أنه من تعلم علما للاحتراف، لم يأت عالما، إنما جاء شبيها بالعلماء.
ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر، ونطقوا به، لما بلغهم بناء المدارس ببغداد، أقاموا مأتم العلم، وقالوا: كان يشتغل به أرباب الهمم العلية، والأنفس الزكية، الذين يقصدون العلم لشرفه، والكمال به، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخِسَّاء، وأرباب الكسل، فيكون سببا لارتفاعه، ومن ها هنا هجرت علوم الحكمة، وإن كانت شريفة لذاتها.
ومنها: أن يمتهن العلم بابتذاله إلى غير أهله، كما اتفق في علم الطب، فإنه كان في الزمن القديم حكمة موروثة عن النبوة، فصار مهانا لما تعاطاه اليهود، فلم يشرفوا به، بل رذل العلم بهم.
وما أحسن قول أفلاطون: إن الفضيلة تستحيل في النفس الردية رذيلة، كما يستحيل الغذاء الصالح في البدن السقيم إلى الفساد.
ومن هذا القبيل: الحال في علم أحكام النجوم، فإنه لم يكن يتعاطاه إلا العلماء به، للملوك ونحوهم، فرذل حتى صار لا يتعاطاه غالبا إلا جاهل يروج أكاذيبه.
ومنها: أن يكون العلم عزيز المنال، رفيع المرقى، قلما يتحصل غايته، ويتعاطاه من ليس من أهله، لينال بتمويهه غرضا، كما اتفق في علوم الكيميا، والسيميا، والسحر، والطلسمات، والعجب ممن يقبل دعوى من يدعي علما من هذه العلوم، فالفطرة قاضية بأن من يطلع على ذنابة من أسرار هذه العلوم، يكتمها عن والده وولده.
ومنها: ذم جاهل، متعالم لجهله إياه، فإن من جهل شيئا أنكره وعاداه، كما قيل: المرء عدو لما جهله، أو ذم عالم متجاهل، لتعصبه على أهله، بسبب من الأسباب، فإنك تسمعهم يقولون: تحريم المنطق مع كونه ميزان العلوم، وتحريم الفلسفة مع أنها عبارة عن معرفة حقائق الأشياء، وليس فيها ما ينافي الشرع المبين، والدين المتين، غير المسائل اليسيرة التي أوردها أصحاب (التهافت) ، كما سيأتي.
وليس في كتب الحنفية القول تحريم المنطق، غير الأشباه، فإن كان صاحبه رآه، كان المناسب أن ينقل.
وأما ما في كتب الشافعية من التصريح به، فمن قبيل سد الذرائع، وصرف الطبائع، إلى علوم الشرائع.
ولعل المراد من منع الأئمة عن تعليم بعض العلوم وتعلمه، تخليص أصحاب العقول القاصرة، من تضييع العمر، وتعذيبهم بلا فائدة، فإن في تعليم أمثاله ليس له عائدة، وإلا فالعلم إن كان مذموما في نفسه - على زعمهم -، لا يخلو تحصيله عن فائدة، أقلها: رد القائلين بها. (1/ 23)
الإعلام الرابع: في مراتب العلوم في التعليم
ولا يخفى أنه يقدم الأهم، فالأهم فيه، والوسيلة مقدمة على المقصد، كما أن المباحث اللفظية، مقدمة على المباحث المعنوية، لأن الألفاظ وسيلة إلى المعاني، ويقدم الأدب على المنطق، ثم هما على أصول الفقه، ثم هو على الخلاف.
والتحقيق: أن تقدم العلم على العلم، لثلاثة. أمور:
إما لكونه أهم منه، كتقديم فرض العين على فرض الكفاية، وهو على المندوب إليه، وهو على المباح.
وإما لكونه وسيلة إليه، كما سبق، فيقدم النحو على المنطق.
وإما لكون موضوعه جزءا من موضوع العلم الآخر، والجزء مقدم على الكل، فيقدم التصريف على النحو، وربما يقدم علم على علم لا لشيء منها، بل لغرض التمرين على إدراك المعقولات، كما إن طائفة من القدماء، قدموا تعليم علم الحساب.
وكثيرا ما يقدم الأهون فالأهون.
ولذا، قدم المصنفون في كتبهم النحو على التصريف، ولعلهم راعوا في ذلك أن الحاجة إلى النحو أمسّ.
ثم إنه: تختلف فروض الكفاية في التأكد وعدمه، بحسب خلو الأعصار والأمصار من العلماء، فرب مصر، لا يوجد فيه من يقسم الفريضة إلا واحد أو اثنان، ويوجد فيه عشرون فقيها، فيكون تعلم الحساب فيه آكد من أصول الفقه.
واعلم: أن الواجب علمه، هو: (فرض عين) ، وهو: كل ما أوجبه الشرع على الشخص في خاصة نفسه، وأما ما أوجبه على المجموع ليعملوا به، لو قام به واحد لسقط عن الباقين، ويسمى: (فرض كفاية) .
والعلوم التي هي فروض كفاية على المشهور: كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمر الدنيا، وقانون الشرع، كفهم الكتاب والسنة، وحفظهما من التحريفات، ومعرفة الاعتقاد، بإقامة البرهان عليه، وإزالة الشبهة، ومعرفة الآفات، والفرائض، والأحكام الفرعية، وحفظ الأبدان، والأخلاق، والسياسة، وكل ما يتوصل به إلى شيء من هذه: كاللغة، والتصريف، والنحو، والطب، والمعاني، والبيان، وكالمنطق، وتسيير الكواكب، ومعرفة الأنساب، والحساب، ... إلى غير ذلك من العلوم، التي هي وسائل إلى هذه المقاصد، وتفاوت درجاتها في التأكيد بحسب الحاجة إليها.
التعلم الثاني: في نفعه
واعلم أن السعادة منحصرة في قسمين: جلب المنافع، ودفع المضار، وكل منهما: دنيوي وديني. فالأقسام أربعة.
نام کتاب : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون نویسنده : حاجي خليفة، مصطفى جلد : 1 صفحه : 21