نام کتاب : مجلة المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد جلد : 35 صفحه : 714
الكاتب: أحمد محمد شاكر
في الإسراء والمعراج
محاضرة فضيلة الأستاذ أبو الأشبال الشيخ محمد شاكر
القاضي الشرعي بقاعة المحاضرات في جمعية الشبان المسلمين
بسم الله الرحمن الرحيم
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الإسراء: 1) .
أيها السادة:
يجتمع حفلنا هذا المبارك الليلة إشادة بذكرى آية من أعظم آيات النبوة،
اختص الله بها عبده محمدًا صلى الله عليه وسلم من دون سائر الأنبياء عليهم السلام،
وأمره أن يصلي بهم في بيت المقدس، موطن النبوات الأولى، وأمرهم أن يقتدوا
به، تشريفًا لقدره وتعظيمًا؛ ولذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد
آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن
سواه إلا تحت لوائي) وإشارة إلى عموم بعثته، كما قال الله - تعالى - في كتابه
الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28) وتعليمًا لأممهم وأتباعهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ويقتدوا به كما
اقتدى أئمتهم الأنبياء، ودخلت إمامتهم في إمامته إلى يوم القيامة، فهو إمام الأئمة،
وهو الإمام الأعظم، فمن آمن به من أتباع الأنبياء فقد آمن بهم، ومن لم يؤمن به
فلم يؤمن بواحد منهم، ومصداق ذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ
لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ
قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ
الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81) . وقوله صلى الله عليه وسلم حين جاءه عمر
بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه: (والذي نفسي بيده، لو أن
موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني) .
أيها السادة:
إن الإسراء والمعراج حادثان من أبرز الحوادث في السيرة المحمدية الشريفة،
وقد دُعيت لأن أتحدث إليكم في شأنهما، وما أراني أهلاً لهذا المقام الخطير،
ولكني على ثقة من إغضائكم عن قصوري وتقصيري عفوًا منكم وفضلاً.
والكلام في شأنهما يدور على أنحاء شتى من القول، أوقن أني عاجز عن
الإحاطة بها واستيعابها، وحسبي أن أقصر قولي على النحو الذي أرجو أن يكون
لي به علم، والذي أظن أنه لي به علم شيء من الاختصاص، وهو البحث في
إثباتهما من الوجهة التاريخية، وأعني بذلك الوجهة الحديثية، إذ أن نسبة أي قول
أو فعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما يدخل على المحدث، وهو الذي يرجع
إليه في إثباته أو نفيه، بعد تحديد موضوعات العلوم وخصوص كل صنف من
العلماء بما أحسنوه من العلم.
والقواعد التي سار عليها علماء هذا الفن - فن الحديث - هي أصح القواعد
للإثبات التاريخي وأعلاها وأدقها وإن أعرض عنها كثير من الناس وتحاموها
بغير علم ولا بينة، بل إنا لنجد بعض الباحثين يعرضون لإثبات الأحاديث ونفيها
بآرائهم وأهوائهم، ومهما رأوا من شيء نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان
موافقاً لرأي ينصرونه فهو الحديث الصحيح عندهم وإن كان مكذوبًا موضوعًا،
ومهما رأوا من حديث صحيح ثابت وكان مخالفًا لما تنصره أهواؤهم، فهو الحديث
الضعيف أو المكذوب، وإن كان إسناده من أقوى الأسانيد وأصحها وأثبتها عند
العارفين بها، ولعلهم لم يقرءوا طول حياتهم إسنادًا صحيحًا أو ضعيفًا، ولم يعلموا
قليلاً ولا كثيرًا مما بذله علماء الحديث من الجهد في التحري والتوثق والتتبع
لأحوال الرواية وألفاظ الأحاديث ومعانيها، وما ألفوا في ذلك من الدواوين الكبار
والمعاجم الموسوعة من منتصف القرن الثاني للهجرة إلى أوائل القرن العاشر.
أيها السادة:
قد عني المسلمون بحفظ أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة بما لم تعنَ به أمة
قبلهم؛ فحفظوا القرآن ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترًا، آية آية،
كلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، حفظًا في الصدور، وإثباتًا بالكتابة في المصاحف،
حتى رووا أوجه نطقه بلهجات القبائل، ورووا طرق رسمه في الصحف، وألفوا في
ذلك كتبًا؛ لو حدثتكم عن شيء منها لأخذكم العجب، ولعل بعضكم يكون أعلم بها
مني، وحفظ المسلمون أيضًا عن نبيهم كل أقواله وأفعاله وأحواله، وهو المبلغ عن ربه والمبين لشرعه والمأمور بإقامة دينه، وكل أقواله وأفعاله بيان
للقرآن.
وهو الرسول المعصوم والأسوة الحسنة، اسمعوا قوله - تعالى - في صفته:
{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3 - 4) وقوله:
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44)
وقوله أيضًا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) .
وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فنهته قريش، فذكر ذلك للرسول، فقال: (اكتب فوالذي
نفسي بيده ما خرج مني إلا حق) ففهم المسلمون من كل هذا أنه يجب عليهم أن
يحفظوا عن رسولهم كل شيء، وقد فعلوا وأدوا الأمانة على وجهها، ورووا
الأحاديث عنه، وبعضها متواتر، إما لفظًا ومعنى، وإما معنى فقط، وبعضها
مشهور، وبعضها بالأسانيد الصحيحة الثابتة، مما يسمى على قواعد المصطلح
الحديث الصحيح والحديث الحسن، ولم يحتجوا في دينهم بغير هذه الأنواع التي لا
يعارض فيها إلا جاحد أو مكابر.
وقد بين الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم هذه الأنواع في كتاب المِلَل والنِّحَل،
وقال عن النوع الأخير - المسمى عند علماء المصطلح الآحاد - إنه هو ما رواه
الثقة عن الثقة كذلك حتى يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يخبر كل واحد منهم
باسم الذي أخبره ونسبه، وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان،
على أن أكثر ما جاء هذا المجيء فإنه منقول نقل الكوافّ، إما إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم من طرق جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وإما إلى
الصاحب، وإما إلى التابع، وإما إلى إمام أخذ عن التابع، يعرف ذلك من كان من
أهل المعرفة بهذا الشأن، والحمد لرب العالمين.
وهذا نقل خص الله - تعالى - به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها، وأبقاه
عندهم غضًّا جديدًا حديثًا على قديم الدهور منذ أربعمائة وخمسين عامًا، في
المشرق والمغرب والجنوب والشمال، يرحل في طلبه من لا يحصى عددهم إلا
خالقهم إلى الآفاق البعيدة، ويواظب على تقييده، قد تولى الله - تعالى - حفظه
عليهم - والحمد لله رب العالمين - فلا تفوتهم ذلة في كلمة فما فوقها في شيء من
النقل إن وقعت لأحدهم، ولا يمكن فاسقًا أن يقحم فيه كلمة موضوعة ولله تعالى
الشكر.
أيها السادة:
هذه صورة مصغرة، بل لمحة خاطفة على المجهود الهائل الذي بذل سلفنا
الصالح - رضوان الله عليهم - للمحافظة على آثار نبيهم صلى الله عليه وسلم
طاعة لما أمر به أصحابه في حجة الوداع (ألا فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع) .
أفيجوز بعد ذلك لكل من ركب رأسه، وأعجبه عقله، ورضي عن نفسه، أن
يقول هذا حديث صحيح وهذا حديث غير صحيح؟ أولا يعلم أنه حين يرد حديثًا
صحيحًا - إما بنفي ثبوته وإما بتأويله عن غير وجهته - يرمي رجالاً من الثقات
الأثبات والعلماء الحافظين بأنهم كاذبون أو جاهلون وهو لا يعرف شيئًا من أخبارهم
ولا أحوالهم، وأنه يرميهم في دينهم وأمانتهم وصدقهم، وأنه حين يرضى عن
حديث مفترى فيزعم أنه صحيح ثابت، يشارك من افتراه في فريته، ويدخل
تحت قوله صلى الله عليه وسلم (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو
أحد الكذابين) .
أيها السادة:
أرجو أن تعذروني إذا أطلت القول في ذلك؛ فإنه بسبيل مما نعرض من
إثبات حديث الإسراء والمعراج، ولأن الجراء من الناس استرسلوا في العبث
بالسنة الشريفة عدوًا وبغيًا.
فلم يكتفوا بتكذيب الرواة الثقات والأئمة الإثبات، بل زادوا عدوانًا وطغيانًا،
اجترءوا على تكذيب بعض أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم رسله إلى
من بعدهم، والأمناء على دينه وشريعته، وهم الذين أثنى الله عليهم في القرآن بما
لم يثن على غيرهم من أصحاب الأنبياء، وهم السابقون المقربون، رضي الله
عنهم ورضوا عنه.
أيها السادة:
إن حديث الإسراء والمعراج من الأحاديث الثابتة الصحيحة، وقد جاء
بروايات كثيرة متواترة، منها المطول ومنها المختصر، ألفاظه مختلفة، وكلها تدل
في مجموعها على صحة هذه الحادثة وعلى ثبوتها التاريخي، مما يسميه العلماء
(التواتر المعنوي) وقد ورد من حديث أنس بن مالك، ومن حديث غيره من
الصحابة، ونقل الحافظ ابن كثير في تفسيره (5 / 243) عن الحافظ ابن
الخطاب عمر بن دحية أنه ذكره من حديث أنس، ثم قال: وقد تواترت
الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر
ومالك بن صعصة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وشداد بن أوس وأبي
ابن كعب وعبد الرحمن بن قرظ وأبي حبة وابن ليلى الأنصاريين وعبد الله بن
عمرو وجابر وحذيفة وبريدة وأبي أيوب وأبي أمامة، وسمرة بن جندب وأبي
الحمراء وصهيب الرومي وأم هانئ وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق،
رضي الله عنهم أجمعين، منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع
في المسانيد.
وإن لم تكن رواية بعضهم شرط الصحة فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون
وأعرض عنه الزنادقة والملحدون {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ
إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (التوبة: 32) فهؤلاء ستة وعشرون
صحابيًّا رووا حديث الإسراء، وقد جمع الحافظ ابن كثير أكثر رواياتهم بأسانيدها
في تفسيره (ج 5 ص 197 - 243) على معرفة مواطنها من كتب الحديث
الصحاح الستة وغيرها، وسأحدثكم ببعض الروايات الصحيحة فيها.
روينا بالإسناد الصحيح المتصل عن إمام المحدثين أبي عبد الله أحمد بن محمد
ابن حنبل في مسنده قال: حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت
البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُتيت بالبراق،
وهو دابة أبيض، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه،
فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس، فربطت الدابة بالحلقة التي يربط بها
الأنبياء، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناء من خمر
وإناء من لبن، فاخترت اللبن، وقال جبريل: أصبت الفطرة. ثم عرج بنا إلى
السماء الدنيا، فاستفتح جبريل، فقيل: ومن أنت. قال: جبريل. قيل: ومن معك؟
قال: محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: أرسل إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بآدم،
فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل: ومن
أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال:
قد أرسل إليه. قال: ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى، فرحبا ودعوا لي
بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال:
جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. فقيل: وقد أرسل
إليه؟ قال: وقد أرسل إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف عليه السلام، وإذا هو قد
أعطي شطر الحسن، فرحب ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة،
فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد.
فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: وقد أرسل إليه. ففتح الباب، فإذا أنا بإدريس، فرحب
ودعا لي بخير، ثم يقول الله - عز وجل -: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِياًّ} (مريم: 57)
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل.
فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا،
فإذا أنا بهارون، فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج إلى السماء السادسة، فاستفتح
جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد.
فقيل: قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بموسى، فرحب بي ودعا لي بخير. ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم، وإذا هو مستند إلى البيت
المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى
سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشيها من أمر
الله ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها، قال:
فأوحى الله - عز وجل - إلي ما أوحى، وفرض علي في كل يوم وليلة خمسين
صلاة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، فقال: ما فرض ربك على أمتك. قال:
قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة. قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف؛ فإن
أمتك لا تطيق ذلك، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم. قال: فرجعت إلى
ربي - عز وجل - فقلت: أي رب خفف عن أمتي، فحَط عني خمسًا،
فرجعت إلى موسى، فقال: ما فعلت. قلت: حط عني خمسًا، قال: إن أمتك
لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قال: ولم أزل أرجع بين ربي
وبين موسى ويحط عني خمسًا، حتى قال: يا محمد، هي خمس صلوات في كل يوم
وليلة وبكلٍّ عشر، فتلك خمسون صلاة، ومَنْ هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبت حسنة، فإن
عملها كتبت عشرًا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئًا، فإن عملها
كتبت سيئة واحدة. فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، فأخبرته، فقال: ارجع إلى
ربك فاسأله التخفيف لأمتك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: لقد رجعت إلى ربي حتى لقد استحييت.
هذه الرواية إحدى روايات الحديث، وهي أجودها وأنقاها، وقد رجحها كثير
من الحفاظ على غيرها، وإن كان فيها من الاختصار في بعض المواضع، وقد
رواها مسلم بن الحجاج في صحيحه (1 - 99) حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا
حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك، وإسنادها من الأسانيد التي
نص أئمة الحديث على أنها أصح الأسانيد، وروى الإمام أحمد أيضًا عن عبد
الرازق عن عمر عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي
بالبراق ليلة أسري به ملجمًا ليركبه، فاستصعب عليه، وقال جبريل: ما يحملك
على هذا؟ والله ما ركبك أحد قط أكرم على الله - عز وجل - منه. قال: فارفضَّ
عرقًا. وروي أيضًا بنفس هذا الإسناد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
رفعت لي سدرة المنتهى في السماء السابعة، نبقها مثل قلال هجر، ورقها مثل
آذان الفيلة، يخرج من ساقها نهران ظاهران، ونهران باطنان، فقلت: يا جبريل،
ما هذان؟ قال: أما الباطنان في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، وهذان
أيضًا حديثان صحيحان روتهما أئمة ثقات إثبات.
أيها السادة:
ومما ورد من الأحاديث الصحيحة ما رواه الإمام أحمد، ومسلم في صحيحه من
طريق معمر بن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال:
قال: النبي صلى الله عليه وسلم: (حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام فنعته
النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا رجل مضطرب، رجل الرأس كأنه من رجال
شنوءة، قال: فلقيت عيسى، فنعته النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا ربعة أحمر
كأنما خرج من ديماس - يعني حمامًا - قال: ورأيت إبراهيم - صلوات الله عليه -
وأنا أشبه ولده به، قال: فأُتيت بإناءين في أحدهما لبن، وفي الآخرة خمر،
فقيل لي: خذ أيهما شئت. فأخذت اللبن فشربته، فقال: هديت للفطرة - أو أصبت
الفطرة - أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك.
وروى الإمام أحمد من طريق عوف الأعرابي عن زرارة بن أوفى عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما كان ليلة أسري بي
وأصبحت بمكة، فظعت بأمري، وعرفت أن الناس مكذبي، فقعد معتزلاً حزينًا،
قال: فمر به عدو الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، وقال له كالمستهزئ: هل
كان من شيء؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: ما هو؟ قال: إنه
أسري بي الليلة. قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين
ظهرانينا ! قال: نعم. قال: فلم يُرد أن يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إذا دعا
قومه إليه، قال: أرأيت إن دعوت قومك تحدثهم ما حدثتني؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤي. فانفضت إليه
المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليهما، قال: حدِّث قومك بما حدثتني. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إني أسري بي الليلة. قالوا: إلى أين؟ قلت: إلى بيت
المقدس. قالوا: ثم أصبحت بين ظَهْرَانَيْنَا. قال: نعم. قال: فمن بين مصفق، ومن
بين واضع يده على رأسه متعجبًا للكذب زعم. قالوا: وهل تستطيع أن تنعت لنا
المسجد؟ وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: فذهبت أنعت، فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت،
قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه، حتى وضع دون دار عقال أو عقيل، فنعتُّه
وأنا أنظر إليه قبل. فقال القوم: أما النعت، فوالله لقد أصاب.
وهذا أيها السادة حديث صحيح أسنده رجال ثقات إثبات، رواه أيضًا ابن أبي
شيبة والنسائي والبزار والضياء في المختارة وغيرهم، وجاء هذا المعنى عن
جابر بن عبد الله مختصرًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما
كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس، قمت في الحجر، فجلا الله لي
بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه) رواه الإمام أحمد
والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والطبري في تفسيره.
وقال الحافظ الثقة محمد بن سعد في كتاب الطبقات الكبير (ج - ق 1 -
144) وأخبرنا حجين بن المثنى حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن
عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألوني عن أشياء
من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربًا ما كربت مثله قط، فرفعه الله إلي أنظر
إليه، ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا
موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب، جعد، كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى
ابن مريم قائم يصلي، أقرب الناس به شبهًا عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم
قائم يصلي، أشبه الناس به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم، فلما
فرغت من الصلاة، قال لي قائل: يا محمد، هذا مالك صاحب النار فسلم عليه،
فالتفتُّ إليه فبدأني بالسلام.
وهذا أيضًا حديث ثابت، رواه في صحيحه عن زهير بن حرب عن حجين
بن المثنى شيخ ابن سعد فيه.
هذا قليل من كثير مما ورد من الأخبار الصحيحة في الإسراء والمعراج، وكلها
تدل دلالة صريحة واضحة عن أن الإسراء والمعراج كانا بشخصه الكريم صلى الله
عليه وسلم، أي بجسده وروحه، ولا يفهم منها سامعها غير ذلك، وقد بدا لبعض
المتأولين من المتقدمين والمتأخرين أن يتأولوا كل النصوص، ويفهموا منها أن
الإسراء والمعراج كانا بروحه فقط، وزعم بعضهم أن ذلك كان رؤيا في المنام، ولا
تجد لواحد من هذين الفريقين دليلاً يعتمد عليه في نقل دلالة الأخبار عن ظاهرها
وصريحها، وهو مدلولها الحقيقي في وضع اللغة، فإنما التأول نوع من المجاز الذي
لا يصار إليه في الكلام إلا بدليل أو قرينة واضحة، نعم، قد تجد حديثين عن
عائشة ومعاوية، يفهمان أن الإسراء لم يكن بجسده الشريف، وهما حديثان ليسا مما
يحتج بمثلهما أهل العلم بالحديث، وقد رواهما ابن اسحاق في السيرة، قال:
حدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، ولكن الله أسرى بروحه.
وقال: حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي
سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا
من الله صادقة. قال ابن إسحاق عقيب ذلك: فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن:
هذه الآية نزلت في ذلك، قول الله - عز وجل -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي
أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) ولقول الله - عز وجل - في الخبر
عن إبراهيم عليه السلام، إذ قال لابنه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (الصافات: 102) ثم مضى على ذلك، فعرفت أن الوحي من الله يأتي الأنبياء
أيقاظًا ونيامًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يقول: تنام عيني
وقلبي يقظان، فالله أعلم أي ذلك كان قد جاءه وعاين فيه ما عاين من أمر الله،
على أي حاليه كان نائمًا أو يقظان كل ذلك حق صدق. هذا كلام ابن إسحاق الذي
نقله عنه ابن هشام في تهذيب سيرته، وهو ظاهر في أن ابن إسحاق لما رأى
كلمتي عائشة ومعاوية تردد في أنه كان في اليقظة أو في النوم، ولم يستطع أن
يجزم بشيء، ولكنه لم يستطع أيضًا أن ينفي ما دلت عليه الأخبار أن ذلك كان
يقظة عيانًا بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم.
أيها السادة:
إن كلمة ابن إسحاق واستدلاله بخبري عائشة ومعاوية - في غالب رأينا - هي
أول ما نقل عن العلماء المتقدمين من الخلاف في هذه المسألة، ثم جاء بعد من جَزم
بما تردد فيه، واستدلال ابن إسحاق بهذين الخبرين غير جيد، فإنهما خبران
ضعيفان ليس لهما إسناد صحيح، وقد أطلت البحث عنهما فلم أجد لهما إسنادًا غير
ما ذكر ابن اسحاق، أما خبر معاوية، فإنه منقطع؛ لأن راويه يعقوب بن عتبة بن
المغيرة بن الأخنس لم يدرك معاوية، ولم يدرك أحدًا من الصحابة أصلاً، وإنما
يروى عن التابعين فقط، ومات سنة 128، ومعاوية مات سنة 60، وأما حديث
عائشة فإنه كما ترون لا إسناد له، لأن قول ابن إسحاق حدثني بعض آل أبي بكر
إيهام للراوي، فلا نعرف منه من الذي حدثه، وهل هو ثقة أو ليس بثقة؟ وهل
أدرك عائشة أو لم يدركها؟ فكلا الحديثين منقطع الإسناد، مجهول الراوي، لا
يحتج بمثله عند أهل العلم.
وقد نقل الإمام أبو جعفر ابن جرير الطبري في تفسيره قول ابن إسحاق، ثم
رده أبلغ رد، فقال: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى
بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر
الله، حمله على البراق حتى أتاه وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه
من الآيات، ولا معنى لقول من قال أسري بروحه دون جسده؛ لأن ذلك لو كان
كذلك لم يكن فيه ما يوجب أن يكون دليلاً على نبوته ولا حجة له على رسالته، ولا
كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك كانوا يدفعون به عن صدقه فيه؛ إذ لم
يكن منكَرًا، ولا على أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي
منهم في المنام على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل.
وبعد فإن الله أخبرنا في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا أنه أسرى بروح
عبده، وليس جائزًا لأحد أن يتعدى ما قال الله إلى غيره، ولا دلالة تدل على أن
مراد الله من قوله: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} (الإسراء: 1) أسرى بروح عبده، بل الأدلة
الواضحة والأخبار المتتابعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله أسرى به
على دابة يقال لها البراق، ولو كان الإسراء بروحه، لم تكن الروح محمولة على
البراق؛ إذ كانت الدواب لا تحمل إلا الأجسام، إلا أن يقول قائل إن معنى قولنا
أسرى بروحه، رأى في المنام أنه أسري بجسده على البراق، فيكذب حينئذ بمعنى
الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن جبريل حمله على
البراق؛ لأن ذلك إذا كان منامًا - على قول قائل هذا القول - ولم تكن الروح عنده
مما تركب الدواب، ولم يحمل على البراق جسم النبي صلى الله عليه وسلم، لم
يكن النبي صلى الله عليه وسلم على قوله حُمل على البراق، لا جسمه ولا شيء
منه، وصار الأمر عنده كبعض أحلام النائمين، وذلك دفع لظاهر التنزيل وما
تتابعت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءت به الآثار عن
الأئمة من الصحابة والتابعين.
أيها السادة:
هذا ما قاله الطبري في الرد على ابن اسحاق، وقد رأيتم وهن حجته فيما
روى عن عائشة ومعاوية، وقد جاء عن عائشة ما يخالف رواية ابن اسحاق،
فروى الحاكم في المستدرك من طريق إبراهيم بن الهيثم البلدي عن محمد بن كثير
الصنعاني عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لما أسري بالنبي
صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس
ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى
صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس. قال: أَوَقال ذلك؟ قالوا:
نعم. قال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق. فقالوا: فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت
المقدس وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم؛ إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك،
أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي أبو بكر الصديق.
وقد رواه البيهقي، والحاكم فيما نقله الحافظ ابن كثير، ورواه أيضًا ابن
الأثير في أسد الغابة، بإسناده من طريق المفضل بن غسان عن محمد بن كثير
الصنعاني، وهذا إسناد صحيح صححه الحاكم ووافقه الحافظ الذهبي، وهو ينقض
رواية ابن إسحاق المجهول إسنادها؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - ترى أن خبر
الإسراء كان من أثره أن كذب من كذب، وارتد من ارتد، وأن أباها الصديق
رضي الله عنه صدق الخبر وأبان عن حجته في التصديق، فلو كانت ترى أن ذلك
كان بالروح أو أنه كان منامًا لما كان هناك معنى عندها للتصديق والتكذيب، ولا
فتنة يفتن بها من ضعف يقينه فيرتد عن دينه؛ إذ كان لا غرابة فما يراه النائم، وإذ
كان العرب يصدقون الكهان فيما يخبرونهم به عما غاب عن أبصارهم، فلم يكن لهم
أن يكذبوا رجلاً يحدثهم عن رحلة روحية تكون أقرب إلى خيالات الأوهام إذا فهموا
من كلامه أنه إنما أسري بروحه ثم عرج بها إلى السماء، وإنما المفهوم الواضح
أنهم يكذبون من يحدثهم بشيء يرونه غير داخل تحت قدرة البشر، وشيء يعجز
الإنسان بجسمه وعقله وبروحه أن يقوم به وحده.
أيها السادة:
قد اجترأ بعض الباحثين من المتقدمين والمتأخرين فجزموا بما تردد فيه ابن
إسحق، وزعموا أن الإسراء كان بالروح، أو كان منامًا، ولم ينتبهوا إلى أنه لو
كان ما زعموا صحيحًا لما جعله الله سبحانه من آيات النبوة لنبيه، ولما أثنى على
نفسه بهذه المعجزة الباهرة، إذ قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ
الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
البَصِيرُ} (الإسراء: 1) .
ومن الغرائب أنهم احتجوا بما نقله من غير إسناد عن عائشة، ثم أخطأوا في
نقلهم خطأ ينقض حجتهم، فإن رواية ابن إسحاق عنها: ما فُقد جسد رسول الله،
بالبناء للمجهول، فنقلوها: ما فقدت جسد رسول الله، فجعلوا حجتهم تحمل معول
هدمها؛ لأن الثابت الصحيح أن الإسراء كان ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول
قبل الهجرة بسنة، ولم تكن عائشة إذ ذاك تزيد سنها على السابعة، ولم تكن في
بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لم يدخل بها إلا في المدينة بعد الهجرة،
فليس من المنطق السليم أن يحكى عن لسانها أنها تقول: ما فقدت جسد رسول الله.
أيها السادة:
نقل بعض المؤلفين عن الحسن بن أبي الحسن البصري القول بأن الإسراء
كان منامًا، وهذا أيضًا نقل خاطئ؛ فإنه لم يرو عنه هذا القول بأي إسناد، والذي
يبدو لي أن الذين نقلوا عنه هذا القول قرؤوا كلام ابن إسحاق وفهموه على غير وجهه؛
لأنه نقل روايتي عائشة ومعاوية ثم احتج لتأييدهما بأنه لم ينكرهما أحد؛ لأن
الحسن قال: إن قوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) أنزل في ذلك، أي الإسراء والمعراج، فهو يريد الاحتجاج
بكلمة (الرؤيا) لغلبة استعمالها فيما كان منامًا، وبأنه إذا كانت الآية نزلت في هذه
الحادثة كان ذلك لا ينفي قول من زعم أن الإسراء والمعراج لم يكونا في اليقظة،
ففهم بعض من قرأ قوله أنه ينقل عن الحسن ما يوافق كلمتي عائشة ومعاوية،
وهذا فهم خطأ يظهر خطؤه واضحًا لمن تأمل سياق الكلام ومعناه.
وقوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) نزل في شأن الإسراء والمعراج على القول الراجح عند العلماء،
ولكن احتجاج ابن إسحاق بذلك لتأييد كلمتي عائشة ومعاوية غير جيد؛ لأن الرؤيا
تستعمل أيضًا في الرؤية بالعين، ففي لسان العرب: قال ابن بري: وقد جاءت الرؤيا
في اليقظة:
قال الراعي:
فكبر للرؤيا وهش فؤاده ... وبشر نفساً كان قبل يلومها
وعليه فسر قوله - تعالى -: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) وعليه قول أبي الطيب:
ورؤياك أحلى في العيون من الغمض
وقد روى الإمام أحمد والبخاري وغيرهما عن ابن عباس في تفسير هذه الآية:
هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى بيت
المقدس، وليست برؤيا منام، وفي لفظ: شيء أريه النبي صلى الله عليه وسلم في
اليقظة، رآه بعينه حين ذُهب به إلى بيت المقدس. وليس أصرح من هذا نص ولا
أقوى منه حجة؛ لأن ابن عباس - وهو ترجمان القرآن - يفسر به الآية، ويرى
أن الإسراء كان في اليقظة، وينقل - وهو العربي القرشي الهاشمي الفصيح - أن
كلمة الرؤيا تكون وهي لغة القرآن بمعنى الرؤية.
أيها السادة:
لما طغت على أوروبا موجة الإلحاد، وارتكس أهلها في عبادة المادة، بعد أن
كانوا في ظلمات من الجهالة في دينهم ودنياهم، حتى سموا الحقبة الماضية من
تاريخها - حقبة القرون الوسطى - بالعصور المظلمة، ثم ملكوا زمام الصناعات
بما فتح لهم من زهرة الدنيا وزينتها، وكانت الأمة الإسلامية قد تخاذلت شعوبها
ودب فيها الضعف والانحلال بما تركت من دينها، وما نسيت من مجدها، وكانت
أوروبا لم تنس هزيمتها أمام المسلمين في الحروب الصليبية - انتهزت هذه الفرصة
وزحفت على بلاد الإسلام تفتحها بالسيف والمادة، وتفتح عقول أبنائها بعلوم الدنيا،
وتنزع منها علوم الدين، وتتغلغل في معتقداتهم لتسلَّها من قلوبهم بما ملك رجالها
من السلطان على تربية أبناء المسلمين، وبما وضعوا عليه أيديهم من شئون
الحكومات، وبما احتكروا من طرق التكسب الحر، واستغلوا الضعف الإنساني
بالحاجة إلى طلب العيش فأخرجوا لنا من صنع أيديهم رجالاً مسلمين تأبى نفوسهم
أن تسلم بكثير من عقائد الإسلام وما ورد في الكتاب والسنة، ويستنكرون بعض
التشريعات الإسلامية بخصوصها في الحدود والربا وحجاب النساء والزواج
والطلاق والمواريث والأوقاف، وهم يوقنون بأنهم مسلمون ولا ترضى قلوبهم
وضمائرهم أن ترتطم في لجة الردة من الإٍسلام، فترى فيهم حالة نفسية شاذة،
وحيرة روحية غريبة، لا مخلص لهم منها ولا نجاة، ويمنعهم الكبر العلمي أن
يخضعوا تفكيرهم لما يخالف ما نشأ عليه معلموهم خطوة خطوة، فلا يجدون أمامهم
ليقنعوا أنفسهم ويرضوا ضمائرهم، إلا أن يتأولوا مخالف آرائهم من نصوص
القرآن وظواهره، سواء احتملت التأويل أم لم تحتمل، وكان شأنهم في السنة عجبًا،
فمنهم من يرفضها كلها ويريد أن يقنع الناس - قبل أن يقنع نفسه - بتكذيب كل
الرواة وبوضع كل الأحاديث، ومنهم من يتأول ما أمكنه تأوله ثم يرفض سائرها.
أيها السادة:
كان من آثار هذه التعاليم ومن نتائج هذه الحيرة في كثير من المتعلمين ما
ترون من التهالك على التجديد في الدين - زعموا - ومن محاولة إنكار وجود
الملائكة والجن وتأول النصوص الواردة في ذلك، ومن محاولة إنكار الخوارق
الكونية التي جعلها الله - سبحانه - معجزات أيد بها أنبياءه ورسله إلى الناس،
بتأويلها إلى ما يخرجها عن وجه الإعجاز ويدخلها تحت مقدور الإنسان، ومن إنكار
كل المعجزات الكونية التي أيد الله بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، والتي
ثبتت عند المسلمين بالتواتر طبقة عن طبقة مما لا يحتمل الشك أو التردد فضلاً عن
تكذيبه كله تحكيمًا للعقل فيما يظنون.
أيها السادة:
إن العالم ليس محصورًا فيما يقع تحت الحس الإنساني فقط، ومن زعم ذلك
فقد حد من قدرة الله، بل إنه لم يؤمن به؛ ولذلك وصف الله المتقين بأنهم {الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب} (البقرة: 3) أي يؤمنون بما أخبرهم به الأنبياء مما خرج عن
إدراك البشر بقواهم المحدودة، وقد أخبرنا الله - سبحانه - في كتابه بصريح القول
أنه أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأخبرنا الرسول صلى
الله عليه وسلم أنه عرج به إلى السموات، وأشار الله - سبحانه - إلى ذلك في
القرآن، اقرءوا قوله - تعالى -: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى
* وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ
فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى
إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ
نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى
* مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} (النجم: 1 -
18) .
فليس للمؤمن الذي يؤمن بالغيب مندوحة عن تصديق ما أخبر الله به رسوله،
وإن عجز عقله من إدراك حقيقة ما آمن به وكَّل علمه إلى عالمه، كالشأن في
المتشابه من القرآن، يقول الله - تعالى -: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ
آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا
تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) ،
فمن حاول تأويل آيات الله التي أيد بها أنبياءه، فما زاد عن أنه يكذب بها وهو يظن
أنه يستر تكذيبه.
أيها السادة:
إن الذين زعموا أن الإسراء والمعراج كانا بالروح أو منامًا من المتقدمين،
إنما زعموا ذلك استدلالاً بأخبار رأوها في ذلك، وقد بينت لكم أنها أخبار ضعيفة
وأن الاستناد إليها خطأ، وأما الذين يزعمون ذلك من المعاصرين، فإنما يدعون أن
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم تكن له معجزة غير القرآن، وينكرون كل
الأخبار المتواترة في المعجزات، ويظنون أن الإسراء والمعراج ينافيان ما اصطلحا
على تسميته في هذا العصر (بالعلم) لأن العلوم المادية لم تثبت قدرة الإنسان
على نقل الأجسام بمثل هذه الصورة التي حكيت في حديث الإسراء والمعراج، وما
أنا بمتعرض الآن لما يثبته العلم وما ينفيه، ولكني أسألهم: هل يؤمنون بما حكى
الله في القرآن من قصة سليمان مع ملكة سبأ؟ فقد أخبرنا الله - سبحانه - بما دار
بين سليمان وبينها من المراسلة، ثم قال - تعالى -: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ
يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن
تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ
قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِراًّ عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي
أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل:
38 - 40) .
فهذه حادثة لا تحتمل تأويلاً، استطاع فيها رجل من أصحاب سليمان - عليه
السلام - بما علمه الله من الكتاب، أن ينقل عرش الملكة من اليمن إلى الشام في
مثل لمح البصر، ويؤمن بصحتها كل مسلم يصدق القرآن، وهي من نوع الإسراء
والمعراج في نقل الأجسام، فماذا تسمون من يؤمن ببعض الآيات وينكر بعضها.
أيها السادة:
قد فشت بدعة منكرة في هذا العصر، وهي بدعة تأويل نصوص القرآن
لتطابق ما يسمونه (العلم الصحيح أو العلوم الكونية) تقربًا إلى متعلمي هذه العلوم،
أو تملقًا إلى أساتذتهم المستشرقين، وهم طلائع المبشرين، وسواء عليهم أكانت
هذه النظريات العلمية ثابتة بثبوت اليقين، أم كانت من الظنون التي يفترضها العلم
افتراضًا ويرجحها لأنه لا يوجد فرض آخر أرجح منها، وإنما الذي يهم هؤلاء
المتأولين أن يسميهم الناس مجددين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها السادة:
لقد أطلت الكلام فيما عمدت إليه، وأحس أني قد أمللتكم، ومجال القول ذو
سعة، وحسبي أن قد تفضلتم بالإصغاء إليَّ، وأستغفر الله لي ولكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... أبو الأشبال
... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد شاكر
... ... ... ... ... ... ... ... ... القاضي الشرعي
نام کتاب : مجلة المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد جلد : 35 صفحه : 714