responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : مجلة المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 35  صفحه : 290
الكاتب: حسين الهراوي

الفصل الخامس
التوحيد هو روح الحرية
كان بودي أن أجعل مقدمة البحث في التوحيد ملخصًا لنشأة فكرة الأديان في
العالم وأن أتناول بالتحليل كل دور من أدوار التفكير الإنساني الأول على ثقافته
الضئيلة ليعثر على سر الوجود، ويتفهم تلك القوة المسيطرة على العالم فتسير به
على هذا النمط المحكم الذي أدهش عقل الإنسان منذ تكوينه إلى الآن.
إلا أن هذا البحث يعد من قبيل المعلومات العامة في التاريخ القديم وكثير منها
معروف، وفيه الدليل على أن فكرة الإنسان في وجود قوة أكبر من قوته تكاد تكون
في قدمها وعهدها كعهد الإنسان على ظهر البسيطة، وأن العقل أدرك بفطرته أن
هذه القوة موجودة، ولما أعيته الحيل في حسها ولمسها جهد أن يدركها من مظاهرها
وأثرها في الحياة، فعبد النيل لأنه يقوت الشعب ويعود بالخير والبركات، وعبد
النار لأنها مصدر قوة عظمى ويشعر بضررها فعبدها خوفًا منها، وعبد الحيوانات
المائية كالتماسيح لأنه ظن أن الروح القوية أو روح القوة تحل فيها، وقدس الأبقار
لأن في لبنها قوة له، ثم عبد أشخاص الأبطال في صور من تماثيلهم؛ لأنه رأى
فيهم قوة إنسانية تفوق قوة الإنسان العادية، ثم فكر في أقوى المؤثرات في الكون
فعبد الشمس وحدها.
كان الإنسان في كل هذه الظروف يتلمس إيجاد سر الوجود، والعثور على
معرفة الحقيقة لروح الحياة.
يقول بعض المشتغلين بالفلسفة الحرة: إن الإنسان لم يبحث بغريزته عبثًا عن
مصدر تلك القوة إلا لأنه ضعيف في كثير من أوقات حياته، وقليل الحيلة فيما ليس
من قدرته، وقليل الإدراك لظواهر الطبيعة التي تبهر نفسه؛ فهو في حال المرض
لا يقوى بنفسه على محاربة الداء، وفي حال الجدب لا يقدر على إنزال الماء من
السماء، فلجأ من ضعفه أن يستمد العون من قوة أخرى تخيلها أنها أكبر منه سلطانًا
على الوجود، ورمز لها بتماثيل يسجد بين يديها يستمد العون منها ولو تمشينا قليلاً
مع هذه النظرية والفرض لخرجنا منها بنتيجة لا تقبل الشك، وهي اعتراف
الإنسان اعترافًا صريحًا بعجزه منذ القدم إلى يومنا هذا في حل سر الوجود بعقله
المطلق وفكره الشخصي مهما علت ثقافته ومهدت أمامه أسباب العلم.
وهذه نتيجة هامة فليتذكرها القارئ؛ لأننا سنعود إليها فيما بعد، غير أننا
نشير الآن إلى أن اعتراف الإنسان صراحة بعجزه وضعفه جعله ينظر إلى العالم
نظرة فلسفية من غير أن يشعر، فقد اعتقد أنه لم يوجد لا ليكون ضعيفًا ذليلاً
فتناهى في طلب الذل والتقشف والزهد والخنوع، فأخذ يتلمس طرق إرضاء خياله
عن القوة المسيرة للعالم من طريق إذلال النفس وقتلها بأنواع شتى من التعذيب،
ترى صورًا منها في الأديان القديمة التي ما زالت آثارها باقية حتى اليوم، كفقراء
الهنود الذين يتعبدون بالجلوس على المسامير، أو رفع أيديهم إلى أعلى حتى تجف
أو تتقدد، أو غرس شص من الحديد في ظهورهم، أو يعلقون على الأشجار، وقد
تغالى الإنسان في زعمه هذا منذ القدم حتى قدم الدم الإنساني قربانًا لاستجلاب
الرضا.
وقد يقال: إن العالم تطور كثيرًا، ووجد فيه من العلماء والفلاسفة من أرشدوه
إلى معرفة شيء عن النفس الإنسانية، ومع ذلك لا نشك أن فطرة الإنسان قد جعلته
يفكر في القوة التي أوجدت هذه الكائنات، وكانت فكرة الدين جزءًا من عقلية
الإنسان، ونرى ذلك متجليًا عند استكشاف (كورتس) لأمريكا الوسطى وتوغله في
بلاد المكسيك لأول مرة؛ حيث حدثنا عن وجود ديانات فيهم لا تختلف كثيرًا عن
ديانات العالم القديم، ووصف لنا المذابح البشرية قربانًا للآلهة مما يدل على أن
فكرة الدين واحدة في العالم القديم والجديد متأصلة وجزء من تكوين الإنسان، وإن
كان الطريق للعبادة مرسومًا على قدر تفهم الإنسان معنى الحياة كما يوحيه إليه
ضعفه وعجزه، والتماس معرفة تلك القوة العظمى التي أوجدته وصيرت العالم بذلك
النظام البديع الذي بهر نفسه.
وإذا تتبعت تاريخ هذا التطور وجدت أنه حتى بعد ظهور أديان سماوية استمر
تعذيب النفس واحتمال الأذى، وكانت منتشرة في أوربا في البلاد التي يفتحها
المسلمون؛ حيث يحدثنا التاريخ أن بعض المتقشفين أخذوا يعذبون أنفسهم تقربًا لله
بأنواع من العذاب كربط الساق حتى يتغنغر ويفسد ويتساقط منه الدود، وكعدم
الاستحمام وعدم تغيير الملابس حتى تتساقط من نفسها، وكالجوع المستمر حتى
الإشراف على الموت، أو غير ذلك من ضروب الاحتمال للآلام [1] .
وفي كل ظرف من هذه الظروف نرى ظاهرة أخرى في تفكير الإنسان،
وهي أن هناك واسطة بين الإنسان وتلك القوة القادرة التي تخيلها، فاستغل قديمًا
جماعة الكهنة في مصر ذلك حتى نازعوا الملوك سلطانهم، وفي البلاد التي ما زالت
في الوحشية الأولى أقامت أمثالهم مقام السحرة، أو غير ذلك مما يطول شرحه.
وفي الهند نرى سلطان كهنة المنبوذين يكاد يشاطر الرجل رزقه، وأنهم يعيشون
عالة على الناس من قبيل الاستهواء الديني.
بعد هذه المقدمة الوجيزة لتاريخ فكرة الدين نعتذر عن عدم الإطالة؛ لأن هذا
الموضوع من المعلومات العامة التي يستطيع الباحث أن يجدها في الكتب المتعلقة
بهذا الموضوع، ولعله يستطيع إذا اطلع عليها أن يلم بها إلمامًا تامًّا، وأن يعرف
أن التوحيد في الله كان معروفًا حتى قبل ظهور الإسلام؛ لأن هناك أديانًا سماوية
سبقت، ولكن كبار عقول الفلاسفة حتى بعد ظهور الأديان أخذوا يتلمسون أسبابًا
منطقية ليقنعوا أنفسهم بوجود خالق.
ويطول بنا أيضًا شرح هذا، إلا أننا نشير إلى أنهم انقسموا ثلاث فرق:
(1) فريق نظر إلى الأديان بفكره الفاحص فقط ثم اقتنع.
(2) وفريق فرض الشك وأراد أن يقنع نفسه من طريق التشكيك في كل ما
أمامه من الأديان.
(3) وفريق ترك كل هذا وأراد أن يبحث عن سر الوجود بنفسه.
فأما الفريق الذي اقتنع بنفسه ببحث الأديان التي أمامه فلا مناقشة لنا معه.
وأما الفريق الذي أخذ يتشكك ليقنع نفسه من طريق الشك فعلى رأسه
(ديكارت) وهذا مذهب أقل ما فيه أنه مبني على زعزعة المنطق، وأن الرجل
يفرض نفسه مثلاً أعلى في الكمال العقلي فيريد أن يقنع نفسه بنفسه لا من طريق
تفهم الشيء بذاته بل طريق التشكيك فيه، وهنا لابد أن تعترض الشخص أمور
أكثر تعقيدًا من أن يحلها بنفسه، ولنضرب لك مثلاً: ديكارت نفسه لا يعرف شيئًا
من العربية فلا يمكن أن يعرف إعجاز القرآن، وديكارت لا يعرف شيئًا من علم
الفلك فلا يمكنه أن يفسر الآيات التي تعد إعجازًا في علم الفلك، كما توجد آيات
أخرى تعد إعجازًا في الطب لا يمكنه فهمها.
ومن عيوب العقل الإنساني أنه كثير الزهو بنفسه وإن الفيلسوف يظن نفسه
بطلاً في كل شيء، مع أن دينًا كالدين الإسلامي تناول كل أنواع التفكير والتشريع،
وهذا أكثر من أن يحكم عليه إنسان واحد.
أما فريق الماديين فليس من موضوعنا مناقشتهم؛ لأننا نرى في القرآن
إعجازًا يقنعهم، وأن الإسلام يتمشى مع العلم جنبنًا إلى جنب، وأن في آيات:
{خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: [2]) و {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ} (الأنعام:
2) و {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14) لأدلة إذا تفهمها هؤلاء الناس
لخروا ساجدين، إلا أننا لا نتكلم في هذا البحث الآن؛ وإنما نقتصر على الإعجاز
النفسي في الإسلام، على أننا نرى من وجهة أخرى أن الموضوعات العلمية الفنية
تتمشى جنبًا إلى جنب مع الإسلام، فأول آية من آيات القرآن الكريم: {اقْرأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *
عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: [1] - 5) .
فأنت ترى أن أول نداء للإسلام كان على دعامتين: الله والعلم، وترى كثيرًا
من آيات القرآن أحالت على تعلم وتفهم دقائق الحياة وعناصرها، وتركت للعقل
البشري حريته في البحث والاستقصاء، وتركت للفكر والسمع والبصر والأفئدة
سبيلاً لمعرفة الله عن طريق العلم {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ ... } (فصلت: 53) ولقد قامت الدعوة الإسلامية على مناقشة الحجة بالحجة والبرهان
بالبرهان.
والظاهرة الغريبة جدًّا أن الإسلام لم يجعل فاصلاً بين المرء وربه، وجعل
الناس كلهم سواسية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) {وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (آل عمران: 144) وهو إنسان
كجميع الناس لولا أنه نبي كريم، وبهذا ترى أن التوحيد ضرب الحجر على العقول
ضربة قاضية، وضرب استضعاف المرء لنفسه ضربة قاتلة، وساوى بين الناس
جميعهم، كما هدم كل أساس للأفكار الخيالية في التقرب من الله بطريق تعذيب
النفس (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق) كما ضرب الوساطة بين العبد
وخالقه ضربة لا قيام لها.
انظر وتأمل هذا النبي الكريم على جلاله وعظمته، وعلى مكانته عند الله
والناس لما رأى رجلاً مقبلاً يرتعد رهبة قال - عليه السلام -: (خفّض عليك،
أنا ابن امرأه كانت تأكل القديد بمكة) .
في هذه الحادثة وحدها، وفي هذا الحديث وحده كل معاني الحرية وكل معاني
المساواة وكل معاني حكمة الإسلام في الحرية الشخصية.
ولنذكر لك أثر التوحيد في تكوين النفس، وكيف تطور الفكر الإنساني بمبدأ
التوحيد، ونبتت عند الناس فكرة الحرية الشخصية والدينية منذ الساعة الأولى التي
قرع سمع العالم هذا النداء الإسلامي.
لقد كان طبيعيًّا أن تصادم هذه الدعوة الحرية - بكل معانيها - بالعقائد
التقليدية التي سبقت الإسلام، وهي عبارة عن اعتراف الإنسان بضعفه اعترافًا
صريحًا - كما تقدم - وإقراره بحدود ضيقة لعقله لفهم تلك القوة الهائلة المسيطرة
على العالم، وعبادة البطولة والأبطال والقوة في رموز من التماثيل يستلهمها وقت
الضيق، ويتقرب منها عند الحاجة، فقام نزاع شديد بين هذه التقاليد الموروثة في
الجمود الفكري.
ورأى الناس الدعوة الله والعلم عن طريق الفهم والحجة والبرهان والعقل،
فنشبت معركة هائلة بين العقل والقوة، ومظاهر القوة مادية محصنة فلجأ المكذبون
إلى إيذاء النبي وصحبه وإنزال العذاب بهم مما يشيب لهوله الولدان، بالضرب
وبالحرق، والكي، بكل أنواع الوحشية.
ذلك لأن عقول هؤلاء الناس لم تكن في أدمغتهم؛ ولكن في أيديهم وفي أدوات
اعتداءاتهم، كما رباهم على ذلك هؤلاء الناس الذين استعلوا ضعفهم الفكري،
فاستغلوا عواطفهم لاستدرار الأموال منهم.
ولقد صبر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الأذى والعذاب، وهذا
الصبر والثبات في موضعهما ضرب من ضروب تطور الفكر الإنساني من حال
إلى حال؛ فالناس قبل الإسلام كانوا يحتملون العذاب تقربًا من الله، ويحتملون
الأذى الفكري من غير فكرة معينة عن الله، ولكن إصرار المسلمين على عقيدتهم،
واحتمالهم الآلام في سبيلها، هو دفاع عن حرية الرأي والعقيدة، دفاع عن حرية
التفكير، دفاع عن الحرية بكامل معانيها، فصاروا يقبلون العذاب في مقاومة
العادات والأخلاق الموروثة، وفي سبيل تحرير الفكر.
وهناك ظاهرة غريبة أغرب مما يتصوره العقل، فقد مضت ثلاثة أعوام على
دعوته صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه إلا ثلاثة عشر شخصًا، وهذا يدلك على مقدار
جمود الفكر في تلك الأيام، وإذا قست ذلك بما يحصل في زمننا هذا لوجدت فرقًا
كبيرًا؛ فإن حرية التفكير الآن تجعل كثيرًا من الناس يعتنقون المبادئ الحديثة أيًّا
كانت، حتى المبشرين والمستشرقين تجد لهم أتباعًا وأنصارًا.
على أن الغريب في هذه الظاهرة - في ثبات أصحاب النبي على الأذى - أنه
لم يكن بيديه شيء ما من حطام الدنيا، ولم يكن لديه من المغريات ما يغريهم لهذا
الاحتمال، ولو كان رجلاً عظيمًا فقط كما يدعي المستشرقون لغيّر من خطته،
وحبب دعوته إلى الناس بتغيير وجهتها لأقرب طريق إلى عقولهم.
ولكن هكذا كان، فالأديان التي سبقت الإسلام كان لها زعماء من رجالاتها قد
استغلوا العقول، فقضوا على التفكير قضاء يكاد يكون مبرمًا؛ ولذلك كانت رسالة
محمد صلى الله عليه وسلم شاقة في بناء التفكير الإنساني من أساسه على مبادئ
صحيحة هي توحيد الله، وأما ما بقي من الدنيا فقد صار مباحًا للعقل والفكر في
حدود المنطق الحكيم.
ولقد رأيت فيما قدمنا من أحوال العالم وقت البعثة أن العالم كان في حالة
جمود فكري وركود سياسي، وأن المرأة كانت في الدرك الأسفل، وأن الرأسمالية
كانت قد طغت على العالم وملكت أزمته، ولم يكن هناك وسيلة لإنهاض العالم من
عثرته.
ولما وردت كلمة التوحيد والعلم والتفكير، عرف العقل مكانه ومقامه ومركزه
في الوجود، وعرف الناس أنهم كلهم سواء لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى،
وأن لا سلطان على العقل ولا رياسة للعقائد، وأن الثواب والعقاب ليس بيد إنسان
كائنًا من كان، والجنة لا تباع ولا توهب، وأن طلب العلم فريضة على كل مسلم
ومسلمة (اطلبوا العلم ولو بالصين) .
وهكذا تحررت العقول وعرف الناس قدر أنفسهم، وأنه لا فارق بينهم ولا
شيء يسيطر على أفهامهم غير العلم ووحي الضمير عن طريق الفهم والحجة.
هذه هي المبادئ التي لا توافق الاستعمار، التي يعمل المستشرقون منذ القدم
على مقاومتها، وهي التي قال عنها (سيكارد) : (إن الإسلام في روحه الخاصة
ينافي مصلحتنا فيجب التقليل منه بين الشعوب الخاضعة لنا) .
هذه هي المبادئ التي جعلت للإسلام أعداء من المسيطرين على البلاد الإسلامية،
فربوا فريق المستشرقين لكي يناهضوها.
وهذه المبادئ هي الحرية والإخاء، والمساواة التي تمخضت عنها الثورة
الفرنسوية بعد عشرات السنين من الهول والمذابح البشرية، وبعد اثني عشر قرنًا
من ظهور الإسلام، وبعد أن قررها القرآن حقًّا من حقوق الإنسان، وجعلها أساس
العقيدة، وفرضها على الناس دينًا وإيمانًا قبل أن تكون مبادئ.
ثم انظر إلى قرارة الآلام البشرية التي ولدت في الثورة الفرنسوية ما سموه
حقوق الإنسان في الوجود والحرية الشخصية والفكرة.
على أن هذه الثورة لم تكن إلا لانتزاع حرية الناس من أيدي العابثين بها
ووازن بين ذلك وبين المبدأ الأسمى الذي وضعه القرآن في الحرية الشخصية
والمساواة بين الناس، حتى النبي نفسه لم يدع سلطانًا ولا سيطرة، ولا يملك لنفسه
شيئاً إلا ما شاء الله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ
أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) .
أليست هذه هي مبادئ المساواة بأوسع معانيها خصوصًا إذا أضفنا إلى ذلك آية:
{وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} (هود:31) .
قلنا: إن الإنسان الأول اعترف صراحة بضعفه، وتمثل القوة العليا في الأشياء
البارزة القوة والفائدة كالشمس وفي الأبطال فصورهم تماثيل يتذكرهم بها ويتقدم إلى
هذه التماثيل بالقرابين والخشوع والاستذلال، وكان أول معجزات التوحيد محو هذا
أيضًا ليكون الفكر حر من مؤثرات الأشباح التي تلوح دائمًا للعين فتؤثر في العقيدة
وحرية الفكر، ولئن كان في الأديان الأخرى شيء من ذلك فإن من قاموا بعداوات
التماثيل [2] سموا أبطالاً للإصلاح الفكري الديني، وهذا جزء قليل من أجزاء
التوحيد وعنصر من عناصره، أفلا ترى بعد ذلك التأثير النفسي للتوحيد وأثره في
حرية الفكر والصراحة في تحرير الفكر من كل قيد يؤثر فيه؟
وهلا ترى معي أثر تكريم بعض الأشخاص بإقامة أضرحة وقباب عالية من
قبيل الذكرى التاريخية فقط بين المسلمين قد جر السذج والهمل من الناس إلى
الاعتقاد بأمور تتنافى ودينهم؟ .
إذن فالتوحيد الصريح أساس المساواة بين الناس، وجعلهم كلهم طبقة واحدة
وهذا هو الإخاء الإنساني للشعوب جمعيها، ولم تتمخض الأجيال كلها عنه إلا بعد
الحرب العظمى في جمعية الأمم وإن كانت هذه الفكرة لم تبد صريحة للآن إلا أن
التربية والتهذيب والرقي الفكري سيجر العالم إلى المبادئ الإسلامية على رغم من
يتبجحون بإنكاره، وعلى رغم أنف الجمود الفكري الذي طغى على العالم بتأثير قوم
يستفيدون ويستمدون نفوذهم من تقييد العقل وتضليله وعدم تحريره.
ويقول بعض المشتغلين بالفلسفة الحرة: لماذا يعتمد الإنسان على الدين في
فهم الفضيلة والإخاء؟ ولماذا لا يبلغ ذلك بالتعليم وأن يعمل الخير لأنه عمل إنساني
وأن يأنف من الشر لأنه عمل وحشي؟
وهذا القول على ظاهره مسحة من العقل ولكن منطقه ناقص وغير سليم؛ لأن
العقول البشرية تتفاوت في تقديرها للخير والشر، وما تراه بعض الأمم خيرًا يراه
غيرها شرًّا في العادات البسيطة، وقد مر بك أن الأمم التي لم تتمدن جعلت الذبائح
البشرية قربانًا للآلهة عملاً خيرًا، وقد تدهش إذا علمت أن الرقي والتعليم مهما كان
تقدمًا لم يغيرا شيئًا من عقائد البوذيين في الهند، وأن أكبر الزعماء كغاندي على
علمه وفضله يقول: (إن الزلازل غضبة من الله) ولا مانع من الاعتقاد بذلك -
وإن كان لها أسباب طبيعية معروفة - وقد يكون ذلك من باب موافقة أقدار لا قدر،
ولا زالت المرأة التي في حالة النفاس قذرة تعامل بالإهمال في أقذر مكان، ولا
زالت القابلة التي تولدها تدخل عليها بأقذر الثياب، ولا يزال للكهنة على كل شيء
ضريبة حتى أصبح ربع السكان من الكهنة الذين يعيشون على هذه الأموال، وكذلك
نرى في حياة المرأة حتى في اليابان أمرًا لم تألفه النفوس في جميع أصقاع الأرض،
وهو تقديم صاحب البيت زوجته هدية لضيفه إذا بات في منزله [3] ، مع أن
اليابان من أرقى البلاد مدنية وتعليمًا، وهذا يدلنا على أنه لا يوجد ضابط للتعليم ولا
حد للعادات.
ومن هذا كان الدين الإسلامي عالميًّا، يضع حدود الغرائز والعادات، ويضع
قوانين لمعنى الإنسانية ومعني البشرية، وإن العالم الآن مدين بنشاطه الحاضر إلى
تحرير الفكر الذي أوجده الإسلام ولو كره المبطلون.
وهنا قد يعترضنا إنسان فيقول لنا: إن تحرير الفكر كان جزءًا من الفلسفة
اليونانية ومن ضمن تعاليم سقراط وأفلاطون وأرسطو. ثم يكرر أن الأقوال التي
نقرأها دائمًا في الكتب الغربية من أن العالم مدين بحرية الفكر لليونان، وأن فضل
العرب لم يكن إلا نقل الثقافة اليونانية وتسليمها إلى أوروبا الحديثة وأن العرب
أنفسهم مدينون للفلسفة اليونانية، ونحن نعلم ذلك حق العلم ولكننا نقول إن حرية
التفكير شيء ومبادئ العلوم الطبيعية والمنطقية شيء آخر، وأن دساتير اليونان
القديمة ومناقشاتهم الجدلية كانت ضربًا من التجارب الأولى، كان بعضها ناجحًا
وكثير منها كان خطأ صريحًا كما ترى في علوم العناصر المكونة للعالم، والأمزجة
البشرية، فالفلسفة اليونانية هي مبادئ العلوم، ولكن حرية الفكر وتحديد الإيمان
على وجهة واحدة، وجعل العلم مرتبطًا بالإيمان، وأن لا حرج على العقل أن
ينشط من عقاله، وأن تكون هناك شريعة بالقدر الذي يكفل الفضيلة ويمحو الضعف
ويساوي بين الناس في حقوقهم المدنية والدينية، فهذه أمور لم تكن معروفة من قبل
في أي شريعة أو دين.
أضف إلى ذلك أن الفلسفة اليونانية قد خدمتها أوروبا، وخدمها العرب قبلهم
خدمة جليلة؛ فمباحثها مستفيضة، ولها الكتب الكثيرة المؤلفة بروح الإنصاف
والتضخيم والتكبير والشرح والتفسير، فكانت هذه دعاية لتلك الفلسفة قد غطت
على سمعة فلسفة أجل منها، وسأعطيك مثلاً ترى معه أثر هذه الدعاية:
فأنت تعلم أن الإسلام وإن كان دينًا تامًّا إلا أنه في الحقيقة تشريع يعامل
الغرائز الطبيعية ونزعات النفس في حدود العقل والحكمة، وترى أن مدارس
الحقوق في العالم العربي تدرس القوانين الرومانية ونظام التشريع الدستوري في
اليونان والرومان درسًا مستفيضًا، وأما التشريع الإسلامي على ما فيه من جلال
فليس موضوع دراسة علمية فنية، ولا يعرفه أحد من المتشرعين الأجانب، أفلا
ترى معي الآن أن الدعاية للقانون الروماني والدستور اليوناني أكبر من قيمتها
بالقياس على القانون الإسلامي المدني، والجنائي، ودستور الشورى، والحكومة
الديمقراطية؟
أليس هذا من قبيل تعصب أوربا لأصلها اللاتيني حتى في الدراسات الحرة؟
وقل لي كم متشرع في مقارنة القوانين يعرف ما في الإسلام من قانون مدني وجعله
موضوع بحث في رسالة خاصة.
ألست ترى معي أن دراسة حرية الفكر الإسلامية على مبادئ التوحيد موضوع
جدير بالنظر والبحث المستفيض؟ ألم يكن للتوحيد ذلك الفضل العظيم في جمع
القلوب فيكون وحدة بشرية بين الممالك المختلفة التي دخلها العرب ولا زالت هذه
الوحدة باقية إلى اليوم على رغم تلك الخلافات التي يوقد لظاها المستشرقون
والمبشرون، وخلق مشاكل للأقليات الدينية؟ ولم يكن الفضل في كل ذلك إلا لفكرة
التوحيد التي - متى اقتبستها الأفهام واستوعبتها الأفئدة - كانت كلها في اتجاه واحد
نحو الوحدة الإنسانية، والنهضة العقلية التي لا تفهم رجعية.
إن المستشرقين والمستعمرين يفهمون ذلك حق الفهم؛ ولذلك هم يعملون على
مقاومة الإسلام.
ولنتحدث لك الآن عن طرق تضليلهم.
((يتبع بمقال تالٍ))

[1] جاء في صحيفة 603 من كتاب دنيانا الغربية - أن المسيحية في القرنين الأولين منها كانت تعد تعذيب الجسم أرقى صفات التقى، فالقديس هيلاريون لم يحلق إلا مرة في العام في عيد الفصح، ولم يغتسل أبدًا حتى صار جسده كالحجر الخفاف، ولم يغير ملابسه حتى تتساقط من نفسها والقديس مكاريوس كان يحمل دائما ثمانين رطلا من الحديد، وينام في مستنقع لكي تلدغه الهوام، والقديس يوزيس عاش ثلاثين سنة في بئر جافة، وكان يحمل مائة وخمسين رطلاً من الحديد، إلى غير ذلك من أنواع التعذيب ـ wonderful world p 603 والحكيم العربي يقول: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا، وجاء في الأثر: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تُبغِّض لنفسك عبادة الله، فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.
[2] مارثن لوثر صاحب مذهب البروتستنت.
[3] وأبطلت هذه العادة حديثًا من كثرة نقد الأوربيين (جولة في ربوع الشرق) لمحمد ثابت.
نام کتاب : مجلة المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد    جلد : 35  صفحه : 290
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست