نام کتاب : مجلة المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد جلد : 35 صفحه : 280
الكاتب: حسين الهراوي
الفصل الرابع
محمد صلى الله عليه وسلم وروح الاجتماع عند البعث
رأيتَ في الفصل السابق أن دين محمد صلى الله عليه وسلم وتصرفاته قبل
البعث كانت كلها من منبع الغرائز والإلهامات العالية.
وقديمًا قال الحكماء: إن السر في عدم إنجابه ذكرًا أن أي ولد يخرج من صلبه
كان محتومًا أن يكون في درجة من النقاء يصل بها إلى درجة النبوة، وموت أولاده
الذكور كان قضاء وقدرًا؛ لأنه معد لتلك الرسالة العظمى التي ختمت به.
ويقول لنا درمنجهام إن موت أبنائه قد زعزع عقيدة زوجته السيدة خديجة في
الأصنام وأتى لنا بقصص كلها خرافية جديرة بأن نهملها [1] .
والآن نقف وجهًا لوجه مع جماعة المستشرقين كلهم الذين كتبوا ويكتبون عن
حياته كرجل عظيم، ونريد أن يتمشى معنا القارئ في هذا الفصل لنرى هل كان
محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً عظيمًا فحسب أم نبيًّا ورسولاً؟ ولو وجدت عبقرية
عظماء الرجال في عصره وفي بيئته كانت تقوم بما قام به أم لا؟
رأى الباحثون من المؤرخين أن العالم كان في وقت البعث في حالة انحلال
أدبي وسياسي عمّ الكرة الأرضية.
ففي الشرق كانت الصين والتبت تمزقهما الحروب الداخلية، والهند كانت في
فوضى أخلاقية نتيجة انتشار المذهب البرهمي الذي يعد من أركانه هبة البنات
الأبكار للآلهة وأن يقوم البرهمي في دور الآلهة في الاستمتاع بالعذارى مما لا
يزال له أثر حتى اليوم، بهبة البنات للاستمتاع الديني في المعابد ويطلق عليهن
اسم فتيات المعبد.
وكان شمال غربي آسيا في حاله ركود وغموض، وشمال إفريقية في حالة
يرثى لها من الظلم الفاضح على أيدي فلول الرومان التي فقدت سمعتها الأدبية ولم
يبق منها بقية أنفاس تتردد كما تتردد آخر أنفاس المشرف على الموت.
وكانت اليونان تعاني ما تعانيه بقية البلدان لتبعيتها للدولة البيزنطية التي كانت
مشتبكة في حروب مع الفرس الذين كانت جنودهم تعيث في أرض الروم فسادًا حتى
انحلت أمة الفرس نفسها.
* * *
ومن هذا يتضح لك أن العالم كان في غمرة انحلال أدبي وسياسي ومادي
وأخلاقي ولا يمكن نجدته إلا بقوة خارقة تهديه سواء السبيل، على أن العالم لم يكن
خاليًا من بذور الإصلاح فقد كانت اليهودية معروفة، والنصرانية لها بابوية روما،
ومازال هذان الدينان منتشرين للآن كما توجد أنقاض المدنيتين اليونانية والرومانية.
هنا نقف بالقارئ قليلاً لنستعرض الآراء التي يقول بها منكرو رسالة محمد
صلى الله عليه وسلم ونتمشى معهم قليلاً في استنباطاتهم لنرى إذا كانت تهيئ لهم مثل
تلك الدعوى.
قال المستشرقون ومن لف لفهم: إن محمدًا كان على اتصال علمي بالأديان
الأخرى، وإنه استقى معارفه ومعلوماته من سياحته في الشام وباحتكاكه بمن
يحضرون إلى مكة للتجارة، وقد زاد الغامزون اللامزون بأنه يحسن القراءة
والكتابة (مرجوليث) بدليل الآية الكريمة: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} (العلق: 3)
وادّعوا أن هذا اعتراف بأنه كان يعلمها، وأنه قرأ عن كل شيء.
إن تصديق مثل هذا الكلام فيه كل العبث بالعقل البشري، أما سياحاته في
الشام فقد سبق عنها الكلام في الفصلين السابقين.
وهناك رأي آخر يقول به بعض المستشرقين وهو أن محمدًا كان يقتدي
بموسى عليهما السلام، وأن دعوته كانت لحب السلطان.
يقول هذا القول المستشرق مرجوليث في كتاب تاريخ العالم العام ونقول ردًّا
على هذا: إن غرائزه وإلهاماته كانت واضحة تمام الوضوح، ولتصرفات الشخص
في صغره دليل على غرائزه وميوله، ولم يكن في غرائزه - عليه السلام - ما
يؤخذ منه حب السلطان وحب المال والتملك، أو غرائز الهدم والإفساد وحب
الظهور وهي أظهر الغرائز في حياة الأطفال الذين يرجح أن يكون لهم شأن في
المستقبل، بل بالعكس كانت غرائزه العاملة هي التواضع والوحدة ونفي الخلاف،
ولم يعرف عنه أنه استغل سلطانه في الاستفادة المادية وهي أهم ما يطمح إليه
العظماء.
كذلك لم يشتهر بالشعر ولا بالدعاية لنفسه وهما أقوى المؤثرات في عصره
وفي كل عصر مما كان يهيئ له أن يجمع حوله جماعة الأنصار يعد بها العدة
للمستقبل الذي يتهيأ له لو أنه شخص ذو مطامع.
هذان هما الرأيان السائدان في كتب المستشرقين، وهناك رأي ثالث يستنبطه
بعض المشتغلين بالفلسفة الحرة وهو أن محمدًا - عليه السلام - كان على علم قليل
بالأديان السابقة، غير أنه رأى أن العالم محتاج للإصلاح المعنوي والنفسي، وأن
لا وسيلة لإصلاح المجتمع إلا بهدم الخرافات والمعتقدات الزائفة فبدأ بالدعوة لهدم
كل هذا.
وإنك لتجد في هذا الرأي أثرًا واضحًا للثقافة والتعليم الراقي، فأصحاب هذا
الرأي ما حكموا هذا الحكم إلا بعد الاطلاع على تاريخ العالم الذي لخصناه لك في
أول هذا الفصل، ثم درسوا المعتقدات التي كانت شائعة في ذلك العهد وكذلك تعلموا
الموازنة بين الأديان، ثم درسوا التاريخ السياسي والاقتصادي للأمم كلها حتى
القرن العشرين؛ ولذلك كان هذا الاستنباط لا يعد استنباطًا بل يعد تقريرًا لما حصل
ووليد الاطلاع على الأسباب والنتائج، وهو تفسير لسر الدعوة التي قام بهم الإسلام.
فهل كان يتسنى لرجل عاش في الجاهلية الأولى أن يعلم كل ذلك على غير
معلم في صحراء قاحلة؟ وهل من الممكن لعقل بشري أن يسع كل هذا التحصيل
والإنتاج والتشريع وحده من غير معين من الأساتذة أو الجهابذة، مع ما علَّمنا علم
النفس اليوم أن للعقل طاقة وللذاكرة احتمالات لا يمكن تجاوزها من غير أن يختل
توازنها اختلالاً عصبيًّا.
فأصحاب هذا الرأي يعرفون المقدمات والنتائج بأجمعها، فينسبون له - عليه
السلام - قوة لا يتسنى لأحد من البشر إدراكها في ذلك الوقت الذي بدأ فيه الوحي،
وهنا سر اختلال هذا المنطق وهذا الرأي؛ ففرق كبير بين أن تدرك الأمر من أوله
وبين أن تعرفه بعد نهايته بأربعة عشر قرنًا، وأن تعرف أسباب نجاح الدعوة
وتضيف إليها استنباطًا من عندك بعد أن تقرأ كل ذلك في كتاب واحد مأخوذ من
آلاف المصادر.
ولو أدت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى نتيجة عكس ما أدت إليه لما عدم
أصحاب هذا الرأي ألف حجة على خطئها وعدم ثقافة الداعي لها مما سنشرحه فيما
بعد.
وهنالك رأي أخير وهو - على ما فيه من تهاون - جدير بالذكر والتمحيص،
وهذا رأي أصحاب الفلسفة الحرة أيضًا، وهو: أن ليس لعظماء الرجال حاجة إلى
التعليم، وإن أكثر العظماء لم يكونوا من المثقفين، بل يكفي للنجاح فكر صافٍ،
وقلب طاهر جبار، وعزيمة صادقة، وإخلاص حر عميق، وإيمان ثابت.
وإنا لنقف برهة أمام هذا الرأي لنقلبه ونقف على كنهه؛ لأن نواحي عظمة
الرجال متعددة، فإذا صدق هذا القول عن رجل سياسي يقيم ثورة، أو يهدم عرشًا،
أو يفتتح دولة، أو يستأثر بسلطة - فإنه لا ينطبق على صاحب دين أساسه قوة الحجة
وسلامة المنطق، ويتناول التاريخ القديم والحديث في زمنه فينفي ويثبت ويناقش
ويجادل، ولابد لهذا كله من ثقافة واطلاع لا وسيلة للإلمام بهما.
فإذا كانت الإلهامات والإخلاص والإيمان وحدها هي مصدر كل هذه
المعلومات فإننا لا نشك أن مسافة الخلاف بين منكري النبوة والمؤمنين قد قربت
إلى أدنى حد؛ لأن الإلهامات التي تتحدث بالغيب، وتعلم المجهول، وتحيط بتاريخ
الأوائل والأواخر، وتنفي وتثبت بطريق القطع والصواب، هذه الإلهامات هي
فيض من فيض الرحمن، ورسالة من الملأ الأعلى.
وليس الصدق الصرف والإخلاص الحر والإيمان الثابت الذي لا يتحدث به
صاحبه، ولا يكتسب به شيئًا من حطام الدنيا، بل احتمل مرارتها لهداية البشر
وإنقاذ البشرية - ليس ذلك كله إلا مرتبة من مراتب النبوة.
وهناك مسألة جديرة بالنظر والتفكير، وهي أن الإسلام ليس للزهد والآخرة
فحسب، بل نظم أعمال الإنسان في الدنيا لتكون وسيلة إلى الآخرة، وشرّع من
القوانين في الحياة المدنية ما ينظم الهيئة الاجتماعية وعلاقات الأفراد والأمم، وهذه
ليست طريقة عظماء الرجال رجال الدول أو رجال السيف، بل المعروف عن كل
عظيم أنه استعان بالأحكام العسكرية ليمنع حرية الناس في حدود القوانين التي
يضعها لصالح الدولة أو الفكرة التي يقيمها، وهذا هو الأمر الشاذ في دعوة الإسلام
فلقد كانت مبادئه عامة.
ولننتقل الآن إلى مسألة أخرى جديرة بالنظر والبحث، وهي أننا لو فرضنا
محمدًا صلى الله عليه وسلم رجلاً عظيمًا فحسب هل كان يتّبع تلك الخطة التي اتبعها
في نشر دعوته؟ وهل كان ينتخب لها ذلك الوسط والزمن اللذين قام فيهما؟ وهل
كان من صالحه أن يقوم بهذا النوع من الدعوة لله؟
لقد أجمع المؤرخون أن مكة كانت وثنية حقًّا، ولكن ما الضرر الذي يصيب
العالم من عبادة الأوثان أو الأحجار ما دام ذلك لا يؤثر في حياتهم ومعاشهم، وهذه
أمة اليابان مثلاً تغلغلت في الوثنية إلى العهد الحديث ومع ذلك طفرت إلى المجد
طفرة واحدة، فالضرر الذي يحصل من عبادة الأوثان إن هو إلا ضرر في نوع من
أنواع التفكير الصحيح، وإذا كان الدين هو معرفة حقيقة الله فقط من غير أن يكون
وراء هذه الحقيقية مبادئ أخرى تنقذ البشرية من براثن الأوهام واستغلال العقول
لتساوت جميع الأديان، وهناك أديان تكاد تلمس التوحيد ولكنها خالية من روح
المنطق، فترى في هذه الأديان أن البقر معبود يقدس ويعد روثها بركة وتشرب
أبوالها، في حين تعد فريقًا من الناس نجسًا لا يصح لمسه وتجعل هذا الفريق من
الناس محكومًا عليه أن يعمل في الأقذار والأوساخ، فما الفائدة التي تعود على العالم
من مثل هذا غير العبث بالإنسانية.
وهناك بعض الفرق التي اخترعت لها مذاهب في الأديان السماوية ورجعت
بالإنسان القهقرى إلى أنواع عبادة الأصنام والأشخاص، فيوزن صاحب المذهب
بالذهب كل عام ويؤخذ هذا الذهب من أتباع مذهبه، ومن هذا يتضح لك أن التوحيد
هو تحرير الفكر من كل شيء، ولنرجع إلى ما كان سائدًا في مكة:
فالمهم والواضح أن اليهود - اتباع الدين الإلهي الأول - كانوا يستغلون
أموال هؤلاء الوثنيين بالربا الفاحش إلى حد استعباد الناس، ودفعهم ببناتهم للبغاء
تسديدًا للديون الباهظة التي جرها الربا الفاحش.
وقد كانت حالة العرب الوثنيين من الفقر والإملاق والبؤس والتشريد مما
يستوقف النظر العادي، وكانت مصيبتهم الاقتصادية والأدبية مما يبعث على التفكير
في هدم اليهودية لا الوثنية، فإذا أضفت إلى ذلك أن مكة ليست بلدًا زراعيًّا بل وادٍ
غير ذي زرع تكتنفه الجبال والصحاري، علمت أن كل أرزاق الناس كانت من
التجارة ورعاية الماشية في الأماكن البعيدة.
ومكة على حالها الآن أهون بكثير من مكة قبل الإسلام؛ فمورد مياهها الآن
متوفر من (عين زبيدة) الذي جر إليها بعد الإسلام وكانت قبل بلقعًا جافًّا.
وإذا عرفنا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان تاجرًا، فإن هناك مسألة لا بد
أنه كان يعرفها، وهي أنه رأى بعينيه وسمع بأذنيه مصدر ألم الناس وفقرهم هذا
الفقر الذي يقاسيه أهله وعشيرته من الربا والإملاق نتيجة طغيان أصحاب
رؤوس الأموال من اليهود الذين استأثروا بتشريع القوانين بمكة، فأذلوا بهذا التشريع
أعناق العرب، ودفعوهم دفعًا إلى استثمار أعراضهم في البغاء [2] .
فالرجل العظيم الذي يوجد في مثل هذه الظروف لو كان غير محمد صلى الله
عليه وسلم ونصب نفسه للدفاع عن المظلوم ونصرة الضعيف فإنه كان يتخذ طريقًا
مباشرًا للقضاء على أصل الداء من منابته، والتاريخ يدلنا على أن عظماء الرجال
الذين عاشوا في مثل تلك العهود وجهوا جهودهم لأقصر الطرق فقاموا بالدعوة
للاشتراكية ومحاربة أصحاب رؤوس الأموال، أو البلشفية أو غير ذلك مما تراه
مفصلاً في كتب التاريخ عندما يستأثر بعض الناس بالأمر ويستبدون بالنفوس، ولعل
دراسة أعاظم الرجال تدعونا إلى تأييد هذا الرأي، فنابليون مثلاً لما رأى الثورات
تمزق فرنسا لم يقم بالدعوة إلى الزهد، بل عمل على حصر السلطة في يده من
طريق الحرب والقيادة، وانتظم في سلك الجنود حتى وجه الأنظار إلى مهارته كقائد،
وأظهر نفسه وكبر من شأن عبقريته بفتح إيطاليا، ثم عمد إلى كل الطرق التي
تجعله قنصلاً فإمبراطورًا.
ومحمد علي باشا عمل مثل هذا أيضًا.
وكان أسهل طريق أمام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يستغل عبادة
الأوثان ولم يكن فيها وفي مبادئها شيء عن الربا، فإذا جمع القلوب حوله وقبض
على ناصية السلطة ضرب نفوذه على ما حوله واستغله في الإصلاح، وأول ما
يوجه نظره هو الحالة الاقتصادية والأدبية من طريق مباشر يمنع كل ما كان يشكو
منه الناس.
والمطلِّع على تاريخ العرب في الجاهلية يرى أن الدعوة كانت ممهدة لمثل هذا
الرأي، وما كان عليه إلا أن يستثير عواطف الناس في سوق من أسواق العرب
ويدعوهم إلى دعوة اقتصادية صرفه فيلتف حوله جماعة من أشداء السواعد ومفتولي
العضل ويهاجم بها بيوت اليهود فيأخذ أموالهم ويطردهم ويحرر الناس من رقهم
المادي. ويدلنا على صحة هذا الرأي ما نراه متجلّيًا من روح الكراهية لأصحاب
رؤوس الأموال، وانتشار الدعوة إلى الرفق بالمظلوم، فقد كانت الشعراء والخطباء
مهدت فعلاً الطريق إلى مثل هذه الدعوة، وتألَّف فعلاً أنصار لمن يقومون بمثل
هذه الدعوة، يدلك على ذلك أشتات من قصائد وأشعار جاهلية في وصف هذه الحالة،
كقول بشر بن المغيرة عن اليهود:
وكلهم قد نال شبعًا لبطنه ... وشبع الفتى لؤمٌ إذا جاع صاحبه
وقال الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم ... وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا
كما يدلك على ذلك عادة وأد البنات في طبقة الأشراف ضنًّا بهن أن يكن في
يوم من الأيام موضع استغلال للبغاء.
فمن من عظماء الرجال يكون في مثل تلك الظروف ولا يقوم بحرب مباشرة
ويستغل هذا الشعور الملتهب ويضرب في الصميم بنهب اليهود وقتلهم، هذا هو
الرأي الذي توحيه الظروف، معاداة اليهود وكراهيتهم وطردهم، ولكن جماعة
المستشرقين يقلبون الحقائق ويقولون إن محمدًا أراد استغلال اليهود، وهذا هو
المنطق المعكوس والكلام الهراء الذي لا يقوم عليه برهان، فالعلل التي كانت
تشكو منها الإنسانية لم تكن متجهة إلى العقيدة بل إلى أنواع المعاملات المدنية
والاجتماعية.
أما أن يقوم محمد صلى الله عليه وسلم ويفكر في طريق شاق ملتوٍ ويبدأ بمعاداة
أهله في عقائدهم، يسفِّه جيرانه وقومه في آرائهم ويهزأ بعقليتهم - فأول ما يقابل به
هذا النوع من التفكير في تلك الظروف هو تلك التهمة التي اتهموه هم أنفسهم بها
أنه مجنون؛ لأن هذا يثير الرأي العام عليه وما كان يقول به عاقل حكيم لو كان -
عليه السلام - مستسلمًا لنفسه وحدها من غير قوة عليا تؤيده، وتوحي إليه،
وتدفعه دفعًا إلى هذا الطريق الشائك المملوء بالمخاطر.
كما أن مكة البعيدة السحيقة لم تكن أصلح مكان لمثل هذه الدعوة؛ لأن
الشخص العادي الذي ينظر إلى إصلاح العالم لا ينتخب أقل البلدان عمرانًا لدعوته،
وماذا يكون رأي العقلاء لو قام رجل في أقل قرى الصعيد شأنًا ليدعو دعوة
إصلاح سياسي أو عمراني في مصر كافة، أو في العالم أجمع؟
ومن المدهش أن الدعوة من أولها انبثت على مبدأ واحد هو الدعوة لله وحده،
أليست هذه طريقة ملتوية؟ وما الذي جعله يتمسك بدعوته هذه بعد أن سعى إليه
زعماء العرب وأهله يولونه رياستهم ويعرضون عليه السلطان المطلق في الأمر
والنهي، فأبى ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره؟
لقد كان في استغلال شعورهم هذا ملكًا كبيرًا، ودولة يطرد بها مصادر
ألم العرب وشقائهم، وكانت فرصة ذهبية لجمع القلوب حوله وضرب المرابين
وأصحاب رءوس الأموال ومفسدي الأعراض.
لنقف قليلاً ولنتدبر، ألم يستغل كل عظماء الرجال مثل هذا الظرف؟ ألم
يخلق نابليون ومحمد علي وكرومول، وغيرهم مثل هذا الظرف؟ وإن تاريخ
عظماء الرجال يخبرنا أن أول عمل يقومون به هو استغلال عواطف الناس لا
معاداتهم في عقائدهم وأخلاقهم.
أما أن يبدأ شخص ما بمعادة الناس وتحديهم كلهم، وضرب كرامتهم وعزتهم
وعقولهم فضرب من السياسة لم يعرف قبل سيدنا محمد ولم يعرف بعده.
وهذا تاريخ سيدنا موسى، وسيدنا عيسى أمامنا وإنا لنرى أن دعوتهما تخالف
هذا كل المخالفة، ولكل نبي ظروف وآية.
والخلاصة:
(1) أن نفسية أي رجل عادي عاش في ذلك الزمن ما كانت لتتخذ من
وسائل الإصلاح مثل هذا الطريق الشاذ.
(2) أن أسهل الطرق لاستغلال الشعور لم يكن قاعدة، بل كانت القاعدة
تحدي الناس أجمعين، وهذا ضرب من الإعجاز.
(3) إن الذين يعترفون بالإلهامات العالية في نفسية سيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم يقتربون من الحقيقة لو عرفوا أن هذه الإلهامات فوق مستوى البشرية.
(4) الذين يحكمون اليوم على السيرة الشريفة بأسبابها ونتائجها لو عاشوا
في ذلك الزمن لكان لهم رأي آخر.
((يتبع بمقال تالٍ)) [1] يقول درمنجهام: إن سبب زعزعة عقيدة السيدة خديجة في الأصنام أنها كانت تقدم النذور والحلي لتلك الأصنام طلبًا لحياة أبنائها الذكور من سيدنا محمد، ولما لم تفلح هذه القرابين تزعزعت ثقتها وأغرت سيدنا محمدًا بهدم كيانها على أن الواقع أن أولاده الذكور كلهم ماتوا بعد الإسلام، فلو كان استنتاج درمنجهام حقيقيًّا وينطبق على نفسيته - عليه السلام - لكان موت إبراهيم آخر أنجاله سببًا في ثورته - عليه السلام - على العالم أجمع، ومع ذلك فكل ما قال معاصرو النبي عند موت أولاده الذكور أن الله قلى محمدًا، فنزلت سورة: (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) (الضحى: 1 - 3) . [2] نعم، إن البغاء كان فاشيًا في الإماء، وكن يُشترين للاتجار بأعراضهن، لذلك نزل النهي في القرآن: (وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) (النور: 33) وقلما كانت تزني حرة.
نام کتاب : مجلة المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد جلد : 35 صفحه : 280