نام کتاب : مجلة المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد جلد : 10 صفحه : 887
الكاتب: محمد رشيد رضا خطاب الشيخ أحمد الإسكندري في اللغة العربية
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها السادة الأفاضل:
إني لأحسبني سعيدًا موفقًا أن أقف الليلة معبرًا بلسان جمهور عظيم من أبناء
اللغة العربية وحراسها وكفاة حاجها، وحماة ذمارها من حاضري مجلسنا هذا وغير
حاضريه، ومن كل من يصلي إلى القبلة أو ينطق الضاد.
أولئك الذين سأرى منهم من يشد أزري ويقيم عذري؛ إذا تنكبت عن
محجتهم، أو فَتَر همي دون استيعاب آرائهم، واشتفاف ما في مزادتهم، فإن لكل فكر
غاية، ولكل رأي شرعة، ورحم الله من استدرك فائتًا فنبه إليه، وأبصر ضائعًا
فدل عليه، ولا تزال الجماعة من الناس بخير ما بقيت فيهم نَصَفَة لأنفسهم، وارتياح
للحق أَنَّى جاءهم، فإن هم استمرؤوا المراء والعنت وخاطروا بمروآتهم في مصارعة
الحق غضبًا للنفس وتعصبًا للهوى، فلا والله إن أفلحوا في أمر، أو أبلوا في عدو.
هذا الذي أعرفه فيكم من النصفة في الحكم، والمظاهرة للحق، والحفاظ على
سلامة اللغة، والنعرة في تشريف الجنس - هو الذي أطمعني في حسن الظن بأن
مقالي هذا سيستجيش عزائمكم، ويستثير هممكم، ويستنصر حفائظكم؛ لمناهضة
العجمة التي كادت تجهز على لغتكم، وتنازعكم وجودكم، وتنسخ من الدنيا جنسكم
وملتكم، وهو الذي هون عليّ أن أبدأ بالتكلم في ذلك فأقول:
حالة اللغة في
زمنيها الماضي والحال
شهد العدو قبل الصديق بأن لغة العرب أفسح اللغات مجالاً لقائل، وأخفها
جرسًا على سامع، وأنها أجلى اللغات بيانًا وأعذبها منطقًا وأغناها لفظًا وأوفرها
أسلوبًا، وأخصرها عبارة، وأوضحها تمييزًا وإعرابًا. ولو حاولت الاستشهاد على
ذلك بأقوال علماء اللغات من شرقيين وغربيين لصرفت وجه القول عن موضوع
الليلة، ولما وسعتني ليلة أو ليال ولو وقع ذلك مني في كتاب حافل، ولكني أترك
الحكم بصحته لعزيز علمكم وجميل إنصافكم.
هذه اللغة التي خدرها أهلها عن التبذل لسواها، وصان حُرَّ وجهها أولياؤها
عن مسألتها غيرها منذ أزمان سحيقة، وعصور متوغلة في القدم يتضاءل أمامها
التاريخ، ويتصاغر دونها عدد المئات والألوف، وقد تناوبها ما يتناوب كل طويل
العمر من سعادة وشقاء وشدة ورخاء، فلشد ما تنكر لها الدهر فصابرته، وصارمها
الصديق فحاسنته، كما طالما أشرقت لها أسارير الزمان، وأطلق لها في كل شيء
الرسن والعنان، فمرت بها عصور سعد كانت فيها لغة العلم والحكمة، لغة الخطابة
والمحاضرة، لغة الجدل والمناظرة، لغة الشعر والأدب، لغة الشريعة والدين، لغة
القضاء والأحكام، لغة القرآن الكريم. وهي بعد لم تفقد من هذه الخصائص والمزايا
إلا قليلاً، وما كانت سعادتها وشقاؤها إلا بإقبال أبنائها وإدبارهم، فإن هم كانت لهم
دولة في الملك والعلم ضمت اللغة إلى حضنيها جميع العلوم والفنون، وبسطت
جناحيها على سائر المعاني والأغراض، ولم تقف عند حد كفايتها لحاجات أبنائها، بل
تعدتهم إلى من دان لهم ودخل في عهدهم، وإن دالت دولتهم وأسلم اللغة أهلها
للغريب؛ تقلص ظلها وتقبضت أطرافها، وفترت عن مدافعة ذوي الطول والغلب.
تعتبر ذلك بما دخل العربية من الألفاظ والمبالغات وأساليب التعظيم والتفخيم
من الفارسية والتركية أيام غلبة الديلم والترك والفرس على دولة بني العباس،
واشتقاقهم منها ممالك وإمارات عديدة.
وهي اليوم تغالب عصرًا من عصور بؤسها وشقائها هو أشد العصور بأسًا
وأصعبها مراسًا؛ ليس عصر غلبة أمة على أمة، بل عصر غلبة الغرب على
الشرق، عصر إجلاب الغرب على الشرق بخيله ورجله، وعدده وأساطيله ولغاته
المختلفة وعلومه وفنونه وصنائعه وكتبه وجرائده. دهم الغرب الشرق منذ أكثر من
قرن بهذه القوة التي لا قبل له بها فوقفت العربية أمام هذا القاهر المستأثر بكل خير
ومنفعة وقفة عاجز بائس، وقفة ظمآن على ينبوع عذب لا سبيل له إلى ورده.
لم يكن هذا الوهن والانكشاف عن خور فطري في العربية أو جبن متأصل
فيها، ولكن هذا شأن جميع اللغات أمام كل انقلاب جديد وحادث عظيم.
وقد جرت سنة الوجود على أن مصير اللغات أمام الانقلابات العظيمة
والحوادث الجِسام إلى أحد حالين: إما أن تتسامح في قبول كل ما يطرأ عليها من
لغة غيرها لا سيما الألفاظ ذات المعاني التي لم تعهدها من قبل، فتندمج إحداهما في
الأخرى على طول الزمن، كما اندمجت لغة بقايا عرب الأندلس في اللغة
الأسبانيولية، وعرب جاوه في لغة الملايو، واللغة القبطية ورومية سورية في
العربية. أو يتخلف عنهما خليط ليس من اللغتين، كما فعلنا نحن في لغة المحادثة
فنشأت العامية المختلفة اللهجات المتشعبة المناحي وتبعها اختلاف الأجناس من
مصري وشامي وعراقي ومغربي وسوداني وحجازي ويماني. وكما فعلت أمم أوربا
أمام لغات المغيرين والفاتحين فنتجت لغات فرعية وأمم مختلفة الأجناس.
وإما أن تتحرز عنها وتتصرف في استعمال ألفاظها لضم هذه المعاني الغريبة
إليها بطرق التجوز والاشتقاق واستعمال الغريب والعتيق منها فيما له أدنى ملابسة به؛
فتحفظ بذلك كيانها وتبقي شكلها، بيد أنها تعظم وتفره وتزداد نشاطًا ورشاقة.
وبعد، فإن هي آنست من أهلها روحًا قويًّا ونحيزة سليمة استطالت على
اللغة الأجنبية وصادرتها على أعز عزيز عليها من علومها وفنونها.
ففي أي طريق من هاتين نسير في تشجيع العربية؟ على اقتحام العقاب وتذليل
الصعاب التي تحول دون ورودها نهر العلوم والمعارف الذي تحول مجراه إلى جهة
الغرب؟
يقول قوم بسلوك الطريق الأولى، ومنهم حضرة خطيبنا الأول، وقد سمعتم
أقواله، ويقول قوم بسلوك الطريق الثانية وأتشرف أن أكون أنا منهم.
وها أنا الساعة آتي على الشبه والأعذار التي ينتحلها الفريق الأول ويتوهمون
أنها تدفع عنهم تهمة الاستسلام والخنوع للغة الأجنبي سواء تعرض لها زميلي
السابق أو لم يتعرض لها فأقول:
(الشبهة الأولى) يقولون: إن لغة أي أمة ما هي إلا أصوات مختلفة تدل
على المعاني التي تقوم بنفس كل فرد منها وتقع تحت إدراكه، وإن هذه المعاني
والمدركات لا تخرج عن دائرة احتياجاته ومرافقه ومشاهداته بحسب طبيعة المقر
الذي نبت فيه، والبيئة التي استوطنها، فليس يطلب إلا ما يعرفه ولا يصف إلا ما
يشاهده من الأناسي وأنواع الحيوان والنبات والجماد، فإن هو انتقل من وطنه إلى
وطن آخر يباينه طبيعة وسكانًا اختلفت احتياجاته ومشاهداته ومعانيه التي كانت
تقوم بنفسه، واختلفت معارفه وأغراضه بقدر مخالفة الوطن الجديد للقديم - فهو
لا يستعجم أمام هذه المناظر الجديدة ولا يخرس دون التعبير عن أغراضه الحديثة بعلة
أنه لم يعهدها في وطنه ولم يوضع لها اللفظ في لغته، بل يجاري طبيعة وطنه
الجديد، ويساجل الجيل الذي يعاشره، فيقتبس من لغته كما اقتبس من معانيه،
ويتزود من ألفاظه كما تزود من المعلومات الحديثة التي أضافها إلى علمه.
ومثل الأمة في ذلك مثل الفرد وذلك طبيعي في البشر. فإن العرب الذين نحن
الآن بصدد البحث في لغتهم لم يشذوا عن هذا الناموس الطبيعي، بل نقلوا إلى
لغتهم كثيرًا من الألفاظ الفارسية والرومية والحبشية والهيروغليفية والسنسكريتية
إلخ، سواء كان ذلك في عصر جاهليتهم وبداوتهم، أو في عصر إسلامهم
وحضارتهم. فقد كان شعراؤهم وتجارهم يدخلون العراق والشام والحبشة ويأتون
بألفاظ أممها في شعرهم وحديثهم، فلا تلبث أن تنشب بلغتهم وتلوكها ألسنتهم
وتمتزج بأرقى طبقات الفصيح من كلامهم. وكفى لذلك دليلاً أن القرآن الكريم
جاء بهذه الألفاظ في تضاعيف آياته وعباراته البليغة مثل السندس والإستبرق
والقسطاس، ولم تتجاف عنها الأحاديث الشريفة وعبارات البلغاء وسمر الخلفاء.
بل تعدت تلك الألفاظ إلى أطعمتهم وملابسهم وآنيتهم، كالسكباج والطيلسان
والسكرجة، على أنهم لم تقصر همتهم على نقل الأسماء فحسب، بل تصرفوا فيها
واشتقوا منها أفعالاً وجمعوها جموعًا مختلفة فقالوا: ألجم الفرس إذا ألبسه اللجام
وبهرج عمله إذا أبطله وجعله كالدرهم المبهرج، وجمعوا أستاذًا على أستاذين
ونموذجًا على نماذج ونموذجات، مما عده أئمة اللغة أصلاً من أصول اللغة،
وسموه بالتعريب، وأفردوه بالمؤلفات الممتعة.
فبعد هذا كله لو أدخلنا في اللغة العربية أسماء الآلات الحديثة والجواهر
المستكشفة والاصطلاحات العلمية، كما وضعها أربابها أو بنوع من التحريف لم
نُحدِث حدثًا في اللغة، ولم نجن فيه بفعل منكر، وإنما نفعل ما فعله العرب أنفسهم
ونكون بذلك قد خرجنا من الضيق الذي نحن فيه وانتجعنا باللغة منتجعًا تستمرئ
به، ويزيد في فراهتها، وما برحت اللغات يأخذ بعضها عن بعض، فالإنجليزية
مثلاً تنقل عن الفرنسية ما لم يكن فيها من أسماء المعاني والذوات ولا سيما أسماء
الأدوات واصطلاحات العلوم، وكذلك الإنجليزية عن هذه وعن غيرها.
ونقول في إزالة هذه الشبهة: لا نمنع أن اللغة يأخذ بعضها عن بعض وأن
العرب أخذت من لغات غيرها، وأن في القرآن والحديث ألفاظًا أعجمية الأصل،
وأن جميع هذا يسمى تعريبًا، وهو أصل من أصول اللغة، ولكن من هم الذين
يأخذون ويضعون ويعربون ويتصرفون في اللغة العربية؟ لا شك أنهم أهل ذلك
اللسان وهم العرب أنفسهم. فلا حق لغيرهم في التصرف والتعريب والاشتقاق من
ألفاظ غيرهم، ولم يقل أحد من أئمة اللغة ونقلتها الثقاة بجواز إدخال الأعاجم
والمولدين شيئًا من لغتهم في العربية الفصحى وعده منها، بل مقتوا ذلك وحاربوه
ونبهوا الناس إليه في معاجمهم، فقالوا: إنه أعجمي عربه العرب أو عربه المُولدون.
وربما أفردوا لذلك كتابًا ككتاب (المعرب) للجواليقي و (الشفاء) للشهاب
الخفاجي وغيرهما. كما قاموا بجمع كثير من الألفاظ التي تقابل ما شاع على ألسنة
أهل زمانهم من المولد والمستعجم، وسموه الفصيح كفصيح ثعلب وغيره.
ننقل هنا رأي الأئمة فيمن له حق التعريب:
قال الشهاب الخفاجي نقلاً عن الجواليقي: اعلم أن العرب تكلمت بشيء من
الأعجمي، والصحيح منه (أي: مما صار معربًا) ما وقع في القرآن والحديث أو
الشعر القديم أو كلام من يوثق بعربيته. فترون من ذلك أن التعريب حق للعرب
وحدهم. وأمَّا ما عربه غيرهم من المولدين فلم يعدوه من قسم المعرب الذي يصلح
استعماله في الفصيح، ولذلك قال الشهاب الخفاجي في آخر مقدمته في الشفاء: وقد
أترك بعض ما عربوه لعدم وروده عمن يعتد به نحو (بشخانة) للكلمة التي يقولون لها
ناموسية، قال: (وهو مولد) .
بشخانة قد طرزت ... قالت بلفظ موجز
على الحريريّ سما ... قدري والمطرزي
وقال السيوطي نقلاً عن ابن دريد في الجمهرة: باب ما تكلمت به العرب من
كلام العجم حتى صار كاللغة: فمما أخذوه من الفارسية البستان والبهرجان إلخ..،
وقال نقلاً عن ابن الأنباري شارح المقامات: كثيرًا ما تغير العرب الأسماء
الأعجمية إذا استعملتها كقول الأعشى: (وكسرى شهنشاه الذي سار ملكه) الأصل:
شاهان شاه، فترون أنه لم يستشهد إلا بكلام عربي وهو الأعشى.
فالتعريب إذن هو كما قال الجوهري في الصحاح: تعريب الاسم الأعجمي
هو أن تتفوه به (العرب) على منهاجها.
ونبحث الآن عمن هم العرب الذين يعتد بعربيتهم في استعمال الألفاظ التي
هي من موضوع علم متن اللغة. قال البغدادي في كتابه (خزانة الأدب) نقلاً عن ابن
جابر: (علوم الأدب ستة: اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع،
والثلاثة الأول لا يستشهد عليها إلا بكلام العرب) ولا ريب في أن مبحث الألفاظ
العربية هو من مباحث علم اللغة. وقال: الكلام الذي يُستشهد به نوعان (شعر
وغيره) فقائل الأول قد قسمه العلماء على طبقات أربع: الطبقة الأولى الشعراء
الجاهليون إلخ، ثم استرسل في عد هذه الطبقات حتى أوصلها إلى طبقة المولدين
الفصحاء، فقال: إن سيبويه استشهد بشعر بشار بن برد، ولم يقف بعضهم عند هذا
فاستشهد بشعر مسلم بن الوليد والحسن بن هاني. ورأى بعض أئمة النحو الاستشهاد
بشعر أبي تمام والبحتري والمتنبي ومنهم ابن جني والزمخشري والرضي. ثم
ذكر البغدادي من النثر المستشهد به القرآن الكريم، ونقل اختلافات كثيرة في
الحديث أصحها الاستشهاد بما كان رواته من أهل الصدر الأول قبل تدوين الحديث
في آخر عصر بني أمية إلخ.
وأقول: إن العرب الذين يعتد بعربيتهم، وينقل عنهم قولهم وكتابتهم بقوا إلى
أواسط القرن الثالث من الهجرة، فالشافعي وأمثاله من فقهاء العرب وأئمة اللغة
وعلية الكُتَّاب والوزراء يُعتبرون في كتابة رسائلهم ومؤلفاتهم عربًا فصحاء، وقال
الإمام أحمد بن حنبل: كلام الشافعي حجة في اللغة. وسأل غلام ثعلب عن حروف
أخذت عن الشافعي مثل (مالح) فقال: كلام الشافعي صحيح. وقد صنف
الأزهري وهو إمام اللغة في عصره كتابًا في إيضاح ما أشكل من مختصر المزني
وقال في ديباجته: (ألفاظ الإمام الشافعي عربية محضة ومن عجمة المولدين
مصونة) والجهة التي اعتبرنا بها كلام الشافعي عربيًّا محضًا هي التي نعتبر بها
كلام الأصمعي ومعاصريه كأبي عبيدة وأبي محمد اليزيدي والكسائي وقطرب
وغيرهم. وكان الشنقيطي رحمة الله عليه يثق بفصاحة المأمون الخليفة العباسي
ويحتج في العربية بما صح عنه. ولا يبعد عن هؤلاء كثيرًا فحول الكُتَّاب من أهل
زمانهم كالحسن بن سهل وسهل بن هارون والجاحظ فهؤلاء وأمثالهم عرانين
الفصاحة، ولهاميم العربية، وزعماء العلم والكتابة والتصنيف. إليهم يرجع كل ما
وصل إلى الناس من علم وأدب وفقه وكلام، ولعل من الهين بعد هذا أن نقول: إنه
بانقضاء عصر هؤلاء الأعلام انقضى عصر العربية الفطرية، وفشت العجمة في
جميع الأمصار، واستحالت اللغة إلى صناعة من الصناعات، يتلاقى فيها العربي
والديلمي والرومي والبربري، فلا يصح لمن خلف من هؤلاء أن يضعوا في اللغة
شيئًا جديدًا، أو يجعلوه لفظًا عجميًّا معربًا؛ إذ ليسوا من أهل هذا اللسان، وإنما هم
حكاة له، ونقلة لأصوله.
ومن نظر في كتب المعرب والدخيل وجد أن كل ما اعتبر فيها معربًا فهو إما
وارد في كلام العرب القديم، أو كلام الله الكريم، أو الأحاديث النبوية أو شعر أهل
العصر الذي وصفنا، أو رسائلهم ومصنفاتهم. يعرف ذلك كل من نظر في كتاب
سيبويه، وكتب الجاحظ، وكتاب الخراج لأبي يوسف ومدونة مالك وكتاب الأغاني.
وما يقع في كلام أهل الصناعة بعد هذه العصور البائدة من مثل: (الوجاق،
ولاردي، والسواري، والطبنجة، والصنجة، والسلاملك، والترابيزة،
والصالون) فليس من المعرب في شيء وما هو إلا أعجمي محض، لا يصح استعماله في كلام العرب، وإذن فلا يصح لنا أن ندخل كلامًا أعجميًّا في اللغة
العربية ونزعم تعريبه؛ إذ لسنا أعرابًا بالفطرة حتى نملك حق التعريب. وكما لا يجوز للفرنسي أو الطلياني أو الإنجليزي أن يزيد شيئًا جديدًا في اللغة اللاتينية
أو اليونانية. أو للهندي الحالي أن يحدث حدثًا في السنسكريتية والفهلوية - لا يجوز
لنا بعد انقراض الأعراب بأحد عشر قرنًا أن ندخل في لسانهم ما ليس منه. ولو جاز لنا ذلك في الألفاظ وهي أصل اللغة لجاز لنا بالأَوْلَى في التركيب
والأساليب لأنها هيئات للألفاظ وأحوال لها، وهي من اللفظ منزلة العرض من
الجوهر أو الفرع من الأصل، وكنا استرحنا من الإعراب الذي أضجر كثيرًا من
متفرنجي زماننا، وجعلهم يتسخطون العربية ويتنقصون فضلها. وهو رأي لا
يعرج على مثله ولا يقول به إلا أهل الجسارة وممن لا يتصونون عن الشنعة ولا
يكترثون بسوء القالة.
وبعد، فما ورد من المعرب في القرآن الكريم وكلام العرب الجاهليين
والإسلاميين ليس إلا شيئا يسيرًا من الكلام لا يحرج اللغة ولا يتهضمها، وما هو
بالإضافة إلى جميعها إلا كقطرة في بحر، أو حصاة في فلاة؛ إذ كل ما صح أنه
معرب في القرآن الكريم لا يزيد عن ستين لفظًا غير الأعلام. وقد أحصيت جميع
ما ورد من المعرب في الكتب التي بأيدينا (كشفاء الغليل) و (المزهر) و (فقه
اللغة) و (الإتقان) و (لف القماط) ورسالة ابن كمال باشا، بعد حذف المولد
والأعلام فلم يزد على ستمائة كلمة، وهبْ أنها وصلت إلى ألف أو ألف وخمسمائة
أفلم يكن اقتصار العرب على هذا القدر الضئيل مع ما كانوا عليه من التبدد
والتبعثر بين جميع أمم الأرض - برهانًا ساطعًا على شدة احتفاظهم بلغتهم وحياطتهم
لها على ما منيت به من البلايا والمحن ورزئت من الهزاهز والفتن، مما لو تقحمت
فيه لغة أخرى لغارت في غيرها وأمست من العاديات والبوائد؟
فلو جرينا على شبهة القائلين باستعمال الألفاظ الأعجمية التي أحدثتها المدنية
الأوربية من أسماء المصالح والإدارات والشركات والآلات واصطلاحات العلوم
لطرقنا في العربية لأكثر من عشرين ألف كلمة، فإن ما نحتاج إلى ترجمته من
العلوم والفنون والصنائع لا يقل عن أربعين، ولا أقل من أن يكون لكل منها
خمسمائة اصطلاح، وذلك خطب هائل يأتي بنيان اللغة من قواعده وتستأسر له تلك
الفلول التي بقيت في رءوسنا منها، وما ظنك ببقاء ستة آلاف لفظ تستعمل الآن في
الجرائد والمؤلفات والرسائل أمام هذا السيل الجارف، ويزيد الأمر ضغثًا على أبالة
من يرى من أهل هذه الشبهات اشتقاق أفعال ومصادر من الألفاظ الأعجمية مثل ما
فعلته العرب في (لجام ونبهرج وبريد) ؛ فقالت: ألجم الفرس، وبهرج الدرهم،
وأبرد السفير. فيقول هو: (أترمت إلى أوتيل مينا هاوس حيث رأينا تيلونوتوجراف
يلفجرون متش الجمال ثم رجعت متنبلا إلى الكازينو لمشاهدة السينما توجراف
فألوجت ولم أفت) . وهي درجة لا تصل إليها الأمة إلا بخذلان من الله تعالى.
ولئن تم ذلك - لا قدر الله - لتكونن اللغة المالطية أقرب إلى العربية من لغتنا.
ولقد ذكرني ذلك ما أخبرني به بعض ثقات الأفاضل ممن حضر مؤتمر
الجزائر منذ عامين أنه سمع بعض متفرنجة الجزائر يقول: (ركبت أنا
والمدموازيل أنتاعي في الشماندفير وصلنا عنابة الساعة الثامنة سوار) وسأل
أحدهم في باريس أين تصلي الصلوات؟ فقال: (أصلي في الشانبر سيدي ما في
موسكي) .
وأما ما يقال من أن أمم أوربا لا تأنف أن تدخل في لغتها لغة غيرها فإن ذلك
لا يوطننا على تقليدها، فإن لغة القراءة والكتابة عندها هي لغة العامة وهي تتبدل
كل يوم. على أنهم يأنفون ذلك بعض الأنفة، ولهذا نقل العلماء والمخترعون
الأسماء الحديثة من اللاتيني أو اليوناني القديم من حيث بادت أممهما وفنيت
عصبتهما.
وما لنا نتبع غيرنا إذا أخطأ وأصبنا نحن؟ ما بقي عندنا من ممثلات جنسنا
إلا هذه الميزة وهي حفظ اللغة والقرآن الكريم. فليتق الله هؤلاء النفر في جنسهم
ولغتهم وقرآنهم، ولا ينسوا أن لغتهم لغة دين وأن في تسليمها تسليمًا للذات وإبادة
لعلوم القرآن الكريم والسنة، وتشبها بالغراب النحس الذي أراد أن يقلد الحجلة فلم
تتهيأ له مشيتها ونسي مشيته.
(الشبهة الثانية) يقولون لو نقلنا أسماء الآلات والاصطلاحات العلمية كما هي
إلى اللغة العربية كُنَّا جرينا على أهم قاعدة ذَلَّل بها المتمدنون شموس الأمور،
وحسموا بها كثير من الخلاف والنزاع، وهي توحيد لسان العلم في جميع اللغات
وفي ذلك من تقارب الأمم ما لا يخفى. ونقول في إزالة هذه الشبهة: إنما فعلت أمم
أوربا ذلك لتقارب أصول لغاتها في الأساليب والبيان، ولاشتراكهم في الكتابة
بالحروف اللاتينية، ولعدم تحفظهم بلغة دين أو جنس؛ فالكلمة يكتبها الفرنسي
بهجائها الخاص كما يكتبها الإنجليزي، وكثيرًا ما تكون مخارج حروفها عندهما
سواء. فما الفائدة لنا في مشاركتهم في لسان العلم مع أن كتابتنا غير كتابتهم،
وحروفنا غير حروفهم ولا مندوحة لنا عن أن تختزل الكلمات الأعجمية التي تزيد
عن سبعة أحرف ونرجعها إلى سبعة أو ما دونها عملاً بقاعدة التعريب، كما أننا
نغير مخارج حروفها بحيث لا يمكننا استعمال الكلمة على منهاج لغتنا إلا بعد أن
تمسخ وتشوه وتعود كلمة أخرى لو قرعت أذن واضعها لما عرفها ولأغرب في
الضحك من عملنا، ونكون قد باعدنا لغة العلم بأكثر مما نريد به التقرب منها. وإذا
أردنا أن نعرف بالضبط ما يقابلون به هذه الكلمات منا فلننظر إلى ما فعلوه هم
أنفسهم عندما أرادوا أن ينقلوا من لغتنا إلى لغتهم فقالوا (انسين) في ابن سينا
و (صلدين) في صلاح الدين و (ليزولاما) في العلماء. وأظن أن عربيًّا يسمع
هذه ولا ينكرها أيَّما إنكار أبعد من الوجود من عنقاء مغرب.
(الشبهة الثالثة) يقولون: إننا بنقلنا الألفاظ الأعجمية كما وضعها أربابها
نكون قد احترمنا أعمال غيرنا، وحفظنا لهم حقهم فيما سموه. فكما لا يحق لنا أن
ننسب اختراع ما اخترعوه إلى أنفسنا لا يحق لنا أن نغير أسماءه.
ونقول في دفع هذه الشبهة: نحن نوافقكم على هذا الأصل فيما كان منها عَلَمًا،
ومن تكلف تغيير أعلام البلدان والأناس فقد ارتكب شططًا، أما وهي أسماء أجناس
فلا معنى لاستعمالها في العربية على أصلها إلا التشهير بلغتنا ورميها بالقصور عن
أن تسع هذه الكلمات بطريقة من طرق وضعها، كالتعبير بالمرادف والتجوز
والاشتقاق، وكلها طرق قياسية في اللغة استعملتها العرب في وضع مصطلحات
علومهم وعلوم غيرهم مما ترجموه من اليونانية وغيرها، كما سنفصل ذلك بعد.
وأظن أننا لو سألنا مخترعًا من القوم: أتحب أن يكون للنوع الذي اخترعته اسم واحد
أو أن يكون له أسماء وألقاب في لغات متعددة وتلهج به أمم مختلفة؛ لاختار
الثاني لأن فيه تخليدًا لاسم مخترعه، فلا يَبِيد في لغة من اللغات المتغيرة حتى يحيا
في أخرى، ولأن في كثرة الأسماء زيادة عناية بالمسمى.
(الشبهة الرابعة) يقولون: إن هذه الاصطلاحات في العلوم أصبحت تعد
بالألوف في ألسنة العلم والصناعة والتجارة، فكم من الزمن يكفي لوضع أسماء
عربية لها من جديد مع إننا محتاجون من الآن إلى النقل والترجمة؟
ونقول في درء هذه الشبهة: إن هذه العلوم لا يمكننا نقلها إلى لساننا في سنة
أو سنتين أو ثلاث، بل لو أردنا إعادة طبع كتبها بلسانها وحرفها لما وسعنا هذا
الزمن، ولنسلم جدلاً بأنه يمكننا طبعها في أقل منه باللغة العربية مع نقل أسماء
الأجناس كما هي، فكم زمنًا يضيع في استظهار هذه الألوف المؤلفة من الكلمات
المستنكرة الغربية وتألفها على السمع والذوق وكم وكم إلخ. لابد من قضاء زمن
طويل، وبذل جهد عظيم، وتذليل صعوبات ومشتقات هائلة على كلتا الحالتين؛
ولأن يكون هذا العناء في سبيل تنمية العربية وجعلها لغة علم وصناعة وتجارة
بالطرق المشروعة؛ خير لنا من أن نهجرها ونعقها، ونقضي عليها بالفناء قضاء
لا نقض فيه ولا إبرام، ونكون بهذا العقوق قد انسلخنا منها، ويتلو ذلك انسلاخنا
من الجنسية العربية لا قدر الله.
(الشبهة الخامسة) يقولون: إن من الصعب جدًّا ترجمة المصطلحات
وأسماء الآلات الجديدة بألفاظ عربية إذ يلزم على ذلك ترجمة اللفظ الواحد بعدة ألفاظ
وفي ذلك من التعسف والثقل على السمع ما لا يخفى، ونورد هنا تفصيل هذه
الشبهة من كلام حضرة الكاتب الأديب جرجي أفندي زيدان المشهور بالبحث في
مثل هذه المسائل. قال حضرته في صفحة (134) من العدد الرابع من السنة
السادسة عشر في التفاضل بين الترجمة والتعريب:
(فأول ما يتبادر إلى أذهاننا من الحكم في تفاضل الترجمة والتعريب أن
الترجمة أفضلهما صيانة للغة من مفاسد العجمة فنقول (بريد) بدل (بوسطة)
(نظارة) بدل (تلسكوب) (سيارة) بدل (أوتوموبيل) و (التصوير الشمسي)
بدل (فوتوغراف) ولكن ذلك لا يتيسر الإجماع على اختيار ألفاظه إلا بِمَجْمَع
علمي لغوي فيه الكفاءة وحسن الاختيار، وأن يكون له صفة رسمية تسهل اعتماد
الكتاب على ما يضعه أو يختاره من الألفاظ. على أن هذا المجمع إذا تألف
وعرضت عليه الألفاظ المطلوب ترجمتها نظنه يحكم بتعريب قسم كبير منها، أي
ببقائه على لفظه الإفرنجي بصيغة عربية؛ إذ يرى بعض المصطلحات الجديدة
تسهل ترجمتها بما يسهل لفظه وحفظه والبعض الآخر لا يترجم إلا ببضعة ألفاظ
يثقل استعمالها مع كونها بالأصل الإفرنجي واحدة. فإذا ترجمنا فوتوغراف بقولنا:
(تصوير الشمس) أو (التصوير الشمسي) فبماذا نترجم (تليفوتوغراف)
ومعناها (التصوير الشمسي عن بعد) وإذا أردنا تصريفها في الاستعمال قلنا:
(آلة التصوير الشمسي عن بعد) ولا يخفى ما في ذلك من الثقل على اللسان والفهم.
والتعريب يكفينا مؤنة هذه الأثقال، فلو أبقينا اللفظة كما هي لقلنا: جاء
التليفوتوغرافي وفن التليفوتوغراف إلخ ... ومن فروع التصوير الشمسي أيضا
(الفوتوليتوغراف) ويراد به التصوير بالشمس على مطبعة الحجر ومثلها
(تليبانتوغراف) وهي آلة كهربائية لنقل الصور عن بعد بأسلاك كهربائية. فكيف
نترجم هذه المصطلحات وأمثالها؟ وقس عليه الفوتوتيب أي الطبع بالشمس
والفيسيوتيب الطبع بلا حبر.
وإذا ترجمنا (المكانيك) بالحيل الروحانية أو علم الآلات فبماذا نترجم
(تليميكانيك) ويراد بها عندهم نقل القوة الميكانيكية من مكان إلى آخر؛ وإذا ترجمنا
(الفونوغراف) بالحاكي أو الناطق فبماذا نترجم (التليغرافون) وهو آلة مركبة
من التلغراف والتليفون وتعمل عملهما معا. وإذا ترجمنا (تلسكوب) بالنظارة
المقربة؛ فكيف نترجم (هيدروسكوب) وهي التلسكوب الذي يكشف به عما في
أعماق البحار وإذا ترجمنا (سينما توغراف) بالصور المتحركة فكيف نترجم
(سينما فون) وهو الآلة التي تريك الصور المتحركة وتسمعك أصواتها. وقس عليها
أمثلة لا تحصى. لا نقول أنها لا تترجم ولكننا نرى ترجمتها شاقة لا تخلو من التعقيد
فضلا عن مخالفتها ناموس الاقتصاد العام. لأن المعنى الذي يؤدى بكلمة لا يجوز
تأديته بكلمتين أو أكثر.
ونقول في إزالة هذه الشبهة:
ليهون جناب الفاضل عليه الأمر فإن الترجمة الحرفية ليست هي الطريقة
الوحيدة لنقل اللفظ الأعجمي إلى العربية، فإن وراءها طريقة التسمية من جديد،
وهذه إما أن يلاحظ فيها كل المعنى الأصلي أو بعضه، أولا يلاحظ شيء منه. ألا
يرى أن العرب عندما أرادوا أن يسموا علم (القسموغرافيا) باسم عربي سموه
(الهيئة) مع أنهم لو أرادوا ترجمته لقالوا رسم السماء؟ وأن علماء الطبقات الأرضية
سموا نوعًا من الصخور لم يهتدوا إلى معرفة عناصره باسم (الخجل) إذ لا
مناسبة بين هذا الاسم وبين المعنى الطبيعي.
وما المانع من تسمية (السينما فون) بالطيف أو (الطيف الناطق) مثلاً،
ولا يطالبني الآن جنابه بتسمية جميع ما ذكره، فإن ذلك يحتاج إلى بحث وروية،
ونحن الآن نبحث عن تقرير أصل نتبعه؛ فإذا تروضي عليه كان له ما يحب.
(الشبهة السادسة) يقولون: إننا بقبولنا طريقة التعريب نكون قد وافقنا
جميع الأمم المشتغلة بالعلم في جميع بقاع الأرض، وبنبذنا إياها نكون قد خالفناهم،
والفرد إذا خرج عن الجماعة اعتبر عمله شذوذًا وانقطاعًا عن العالم.
ونقول في إزالة هذه الشبهة:
ليس كل خلاف يعد شذوذًا أو يلحق بصاحبه ضررًا، على أن لنا في ذلك
أسوة بأمة ألمانيا العظيمة، فإنها خالفت هذا المبدأ ولم تستعمل مصطلحات اللغات
الأخرى في لغتها وهي صاحبة المقام الأول في قارة أوربا علمًا وصناعة وسياسة.
وبعد فماذا نستفيد من هذا الوفاق مادمنا نكتب بغير الحروف اللاتينية وننطق
الحروف بمخارج تباين مخارجها في اللغات الأوربية؟
(الشبهة السابعة) يقولون: إن لغتنا جامدة وكل معنى من معانيها لا يقوم إلا
بمفرد خاص، فأما اللغات الأجنبية ففيها كثير من الزوائد والانتهاءات الصغيرة تؤدي
عمل الألفاظ الكبيرة خصوصًا في النفي والإثبات والإفراد والجمع. يُعرف
ذلك بالاطلاع على مصطلحات الكيمياء، وكيف فرقوا بين كلوريك وكلورات
وكلورور. وأن لها لاتينيا ويونانيا قديمين يؤخذ منهما أسماء المصطلحات الجديدة
بحيث لا يحصل أدنى اشتراك في اللفظ؟
ونقول في إزالة هذه الشبهة:
إن عددًا لا يمكن حصره من ألفاظ اللغة العربية كل منها له معنى لو أريد
التعبير عنه بالتفصيل لما كفت الجمل بله الألفاظ. وإن النطق بعلامات التثنية والجمع
في اللغة العربية له أعظم أثر في التمييز، وأن زوائد جواهر الكيمياء يمكن أن
يستبدل بها في العربية كلمات قليلة الحروف أو حروفًا مثل (ذي- أو ذات- أو ياء
النسب - أو النسب بالصيغة والاشتقاق) وغير ذلك مما لا يتعذر على جماعة تعنى
به، وإن لنا أيضا لاتينيا قديمًا لا يحصل به الاشتراك هو الغريب القليل الاستعمال
متى كان قليل الحروف وخفيفها على السمع.
(الشبهة الثامنة) يقولون: إن هذه الأشياء الجديدة قد شاعت وذاعت بين
العامة وهم السواد الأعظم، وكثير من الخاصة. ويشبه المستحيل إرجاعهم عنها إلى
الألفاظ عربية فصحى.
ونقول في دفع هذه الشبهة:
أما العامة فلهم لغة خاصة بهم، ونحن نتكلم في لغة الكتابة والقراءة؛ فإذا ما تعلم
العامة القراءة والكتابة تعلموا الألفاظ الفصيحة.
وبعد فقد كان ينبغي على هذا المبدأ أن نجاريهم في جميع الألفاظ العامية أو
بالأولى نجعل لغة القراءة والكتابة هي العامية ونريح أنفسنا من عناء تعلم الفصيح.
والصدور تضيق بالرد على أمثال هؤلاء ممن لا يحفلون بسوء الحال عند العقلاء،
ولا يبالون بتبعة القول، وأما الخاصة: فلا أسهل من الأخذ بهم في طريق الفصيح
وإنَّا لنرى الكاتب في عصرنا يأنف من كتابة (بسكليت) ويكتب بدلها
دراجة.
(الشبهة التاسعة) يقولون: إن اللغة كائن حي وهي في ارتقاء مستمر
وتجدد ودثور، وإن ناموس الارتقاء يستدعي بالطبع بقاء المناسب، وكل ما حدث
في اللغة من الدخيل والمولد وما سيحدث فهو ضروري بطبيعة الحال، وعبثًا يحاول
الإنسان مقاومة الطبيعة، ألا ترى أن العرب كانت لها أسماء لمسميات تعرفها، فلما
أمعنت في الامتزاج بالفرس أخذت أسماء هذه المسميات عنهم وهجرت أسماءها
الأصلية؟ نظير ذلك الباذنجان وهو بلغتهم (الأنب) والرصاص (الصرفان)
والهاون (المنخاز) .
ونقول في دفع هذه الشبهة:
إن هذا الأصل الدرويني يتفيهق به كثير من متفلسفة زماننا، ويدخلونه في
كل شيء وما مُنِي الناس بشر أشد من اختلافهم في فهم هذا الأصل، ولئن صح
على زعمهم أن اللغة كائن حي كبقية الأحياء؛ فمما لا شك فيه أن حياتها بحياة
أهلها، ونحن نحب أن تكون لغتنا حية. إذن فحياتها وموتها وعزها وذلها بأيدينا،
فلو شئنا أن نتدرج في ناموس الارتقاء ونتبع طريقة التجدد والدثور فلنحي كثيرًا
من ألفاظها الجميلة التي باتت في بطون المعاجم تشتكي العطلة وسوء الحال وكساد
السوق، ولنُمتْ كثيرًا من الألفاظ الدخيلة والمولدة التي صارت في وجهها كبثور
الجدري الأسود فشوهت محاسنها، وأوهنت قواها.
***
إذا نفينا جميع هذه الشبه وجب علينا أن نشرح طريقتنا في ترجمة
الاصطلاحات والآلات الجديدة فنقول:
(إن هذه الكلمات لا تخلو أن تكون أعلامًا وأسماء أجناس، فأما الأعلام فلا
مانع من نقلها أعجمية بعد صقلها بالنطق العربي، وأما أسماء الأجناس فإما أن
تكون معروفة قديمًا عند العرب، ولها في لغتهم أسماء تطلق عليها أو على
ما يشبهها، وهذه يبحث عنها في اللغة ويعاد استعمالها في معانيها ككلمة قنال
(الخليج أو قناة) وكلمة قمبانية (شركة) وإما أن تكون مجهولة لهم وهذه لنا في
نقلها ثلاث طرق:
(1) طريقة ترجمة اللفظ بمرادفه كترجمة (سينما توجراف)
بالصور المتحركة وترجمة كرافات (برباط الرقبة) .
(2) وطريقة الاشتقاق من الفعل الذي يعبر به عن عمل الكلمة أو
صفتها إن كانت من ذوات العمل والصفة. وهذه تسمية جديدة لا ترجمة مثل تسمية
(البسكليت) بالدراجة و (الأتوموبيل) بالسيارة ونحوهما من مثل: الدراعة
والبارجة والباخرة والنسافة والقطارإلخ، فإن هذه الألفاظ قد وضعت لمسميات
إفرنجية ولا يوجد من الفريق المخالف لنا من ينكر سهولتها وشهرتها وسبقها غيرها
في حلبة الكتابة.
(3) طريقة التجوز وهي طريقة واسعة النواحي كثيرة الفجوج وعليها
اعتماد الأوروبيين في نقلهم المصطلحات الحديثة من اللاتينية. وما أغزر علاقات
المجاز في لغتنا! فعلاقة المشابهة في حال من الأحوال تكفينا مؤنة التكلف والتعسف
في انتقاء الألفاظ، هذا إلى بقية علاقات المجاز المرسل: كالسببية، والمسببة،
والحالية، والمحلية اللازمية، والملزومية، واعتبار ما كان، وما يؤول، وغيرها
مما يكفي فيه أن يكون بين العربي والأعجمي أدنى ملابسة، ومتى شاع اللفظ الجديد
واشتهر فلا يوجد من يبحث عن أصل مأخذه كالدراعة والبارجة والقطار.
والمفتخر والمجاز إذا اشتهر صار حقيقة عرفية.
وهذه الطرق الثلاثة كلها قياسية في الاستعمال لا ينكرها أرباب العربية.
وكتبهم في البيان والأصول وعلم الوضع حافلة بشرح حقائقها وتفصيل مباحثها، ولا
يتحكك بذلك إلا مكابر. وعلى هذه الطرق جرت العرب عند وضعها اصطلاحات
العلوم الشرعية والأدبية والعلمية، وكلنا يعرف معنى الفاعل والمفعول والخبر
والحال والتمييز والظرف والاستثناء والعدل عند النحويين، ونعرف أصل معانيها
اللغوية، ونرى العرب عندما ترجموا المنطق والحساب والهندسة والفلك لم يستعملوا
في اصطلاحات هذه العلوم إلا الألفاظ العربية وربما تطرف بعضهم فأتى ببعض ألفاظ
على أصلها مثل الفلسفة والسفسطة، ولكن ذلك لم يمنعه من استعمال مرادف لها عربي
مثل الحكمة والمغالطة.
هذا وإن ما سقناه من أدلة الرد على الفريق الأول يكفي في إثبات فضل
طريقتنا في الترجمة ولا يحتاج في نشرها والعمل بها إلا تأليف مجمع علمي يتولى
أمر البحث والوضع وهو ما نرجوه في هذا النادي؛ إذا لقى من حضرات الأفاضل
أرباب الصحف والمؤلفين والكتاب والشعراء ما ننتظره منهم من المؤازرة في
البحث والوضع والتنويه بنتائج عمله وإذاعته للجمهور ليروا رأيهم فيه وليتزودوا
منه) اهـ.
(المنار)
هذا خطاب الشيخ أحمد الإسكندراني الذي أعده للاجتماع الأول من اجتماعات
نادي دار العلوم ولكنه لم يتمكن من إتمامه فيه. وقد رأى من المنكرين عليه منع
التعريب ما حمله على كتابة خطاب آخر يرد فيه عليهم وعلى خطاب الشيخ محمد
الخضري الذي نشرناه في الجزء الماضي، وقد ألقى هذا الخطاب الثاني في الاجتماع
الثاني وهذا نصه:
الخطاب الثاني
للشيخ أحمد الإسكندري
(في نادي دار العلوم)
أيها السادة الأفاضل:
إني أقف الآن موقفي منذ أربع عشرة ليلة في سبيل أداء واجب من أقدس
الواجبات عليّ وهو الذود عن حياض العربية وكلاءتها من تسرب العجمة إليها.
وكان بودي أن أناجز مناظري الفاضل في الموطن الأول، ولكن حال دون ذلك ضيق
الوقت وفيما حضر استدراك لما فات.
أيها السادة: كنت عنيت في الاجتماع الماضي أن أدحض أولاً شبه الفريق
المخالف لي في الرأي ثم أشرح بعد ذلك طريقتي في ترجمة الاصطلاحات العلمية
وأسماء المخترعات الجديدة، ولكن الوقت ضاق عن تمام إدحاض الشبه وبيان
الطريقة فلم آت إلا على شبهة واحدة منها. واكتفاء بما أوضحته في رسالتي التي
طبعت ووزعت على حضراتكم وعلى كثير من أهل الذكر، ولبثت الجرائد توالي
نشرها عدة أيام - لا أريد الليلة معاودة البحث في هذه الشبه إذ لا تخلو إعادة القول
فيها من تكرار، وأجعل كلامي الليلة قاصرًا على شرح طريقتي، وعلى المناقشة مع
مناظري الفاضل في خطبته التي أوضح فيها طريقته ورد بها على مخالفيه فأقول:
(بلغني أن نفرًا ممن يأخذون بالظَّن ويثقون بوجدانهم لم يتريثوا في الحكم
على طريقتنا، فأرجفوا بأنها تقول ببقاء القديم على قدمه وأنها تحارب كل جديد وأنها
تمنع الاجتهاد في اللغة كما منع من قبل الاجتهاد في الدين، وأنها تفرق بين اللغة
وبين العلم والصناعة، وأنها تقاوم الرقي الطبيعي للغات وغير ذلك مما لم يكن له
موضع إلا أخيلتهم فقط.
يا حضرات الأفاضل إني لم آت لحفظ لغتنا بأمر غريب، وما جئت شيئًا نُكْرا.
فإني لم أسلك إلا الطريقة التي سلكها أسلافنا عندما أرادوا أن يدونوا علومهم ويترجموا
كتب غيرهم من الأمم. كانوا - رحم الله أيامهم- يضعون لاصطلاحات علومهم
أسماء منقولة من العربية المحضة بنوع من التساهل والتجوز في المعنيين القديم
والجديد، ولم ينكر أحد عليهم ذلك حتى أهل زماننا، فوضعوا مصطلحات النحو
والصرف والمعاني والبيان والبديع والعروض والقافية ومصطلح الحديث والتفسير
وأصول الفقه وفروعه والتوحيد، كما وضعوا مصطلحات العلوم التي ترجموها
مثل المنطق والحكمة الإلهية والطبيعية والحساب والهندسة والفلك. وغير ذلك العلوم
التي لو أردت إحصاء مصطلحاتها لعددت عشرات الألوف من الكلمات كلها عربية
لها معان اصطلاحية ومعان لغوية، ومثل ذلك آلات الصناعة والعلوم. و (كتاب
المخصص) و (فقه اللغة) و (كتاب العين) للخليل وجمهرة ابن دريد ونوادر ابن
الأعرابي ومفردات ابن البيطار والمادة الطبية للرشيدي وقاموس نجاري بيك، كلها
بحور زاخرة بأسماء النبات والحيوان والآلات.
ولم يكن العرب يبتدعون ذلك من عند أنفسهم بل إنهم اهتدوا فيه بهدي القرآن
الكريم فأكثر ألفاظ القرآن الدينية لم تكن العرب تعرفها قبل الإسلام بهذه المعاني، فقد
جاء الإسلام وما تعرف العرب من معنى الصلاة إلا الدعاء ومن معنى التيمم إلا
القصد، ومن معنى الزكاة إلا الطهارة، ومن الفسق إلا قولهم فسقت الرطبة، ومثل
ذلك كثير في القرآن؛ فاستعملها في هذه المعاني الجديدة الدينية، ولم تنكر العرب هذا
الاستعمال. ولئن جاز أن ندخل مثل مباحثنا من الدين في باب الحظر والإباحة
لجاز لنا أن نقول: إن هذا إقرار من الله تعالى على صحة التوسع في استعمال
الألفاظ؛ اذ لو أثبتنا هذه الطريقة في تسمية الآلات والاصطلاحات الجديدة لم نكن
تابعين إلا للسنة التي سنها الله تعالى في تسمية كل جديد، ولسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وسنة الأئمة وواضعي العلوم ومترجميها من سلف الامة؛ وإذا فصلنا
هذه الطريقة أمكننا أن نقررها فيما يأتي:
(1) لا يجوز النقل من غير لغة العرب إلا الأعلام.
(2) لا نأخذ الكلمة للشيء الجديد إلا من غريب اللغة أو القليل الاستعمال
مما هو عندنا بمنزلة اللاتيني عندهم لتقليل الاشتراك بقدر الإمكان.
(3) إن كيفية الترجمة لا تخرج عن الطريقة الآتية:
ثم قال بعد ان لخص طريقته التي ذكرها في الخطاب الأول:
وقد يعترض بعض المتحذلقين بقوله: لا غنى لنا عن أن نترجم بعض الآلات
بكلمتين فأكثر مع أنها كلمة واحدة في الإفرنجية.
فنقول في الرد عليه: أما الكلمتان فلا بأس باستعمالهما إذا كانتا لصفة
وموصوف ومضاف ومضاف إليه، لأنهما كالشيء الواحد مثل (القباب الطيارة)
و (المحراث البخاري) و (سكة الحديد) ومع هذا فإن اللغة الإفرنجية نفسها لم تسلم
من ذلك كثيرًا. أما ما زاد على ثلاث فإننا لا نلتجئ إليه بل نسمي الكلمة التي لا
تترجم تسمية جديدة كما نسمي (السينمافون) ومعناها الصور المتحركة الناطقة
بالخيال الناطق.
واذا قيل: إن ذلك يستدعي عملاً كثيرًا وأزمانًا طويلة، ومن هم الذين
يعملون معك لتحقيق هذه الأمنية. أقول: إني لا أريد أن أنقض هيكلاً وأبنيه في
ثلاثة أيام، وكل عمل عظيم يستلزم صعوبة، وبيننا الآن كثير من رجال العلم لا
يعوزهم إلا مساعدات من رجال الصحف وسراة الأمة.
إذا قيل: إننا نخشى أن لا نجد في اللغة أسماء موافقة لبعض المسميات
الإفرنجية أقول: هذا مستحيل مع ما قدمنا من الطرق الثلاث، وإذا علمنا أن أبا
الأسود سمى علم النحو نحوًا لأن عليًّا - رضي الله عنه- لقنه بعض قواعده، وقال
له: (انح هذا النحو) وأن علماء طبقات الأرض من الإفرنج سموا أحد الصخور
باسم (الخجل) لأنهم لم يعرفوا له تركيبا، تحققنا من أننا نجد حتمًا كل اسم
والاصطلاح وحده وضع آخر.
وإذ سمعتم يا حضرات الأفاضل طريقتي وجب عليّ أن أشرح لكم الأدلة
والبراهين التي قامت عندي على صحتها.
الدليل الأول: إن التعريب ليس من حقوقنا لأننا لم نر أحدًا من أئمة اللغة
أنكر أن التعريب حق للعرب وحدهم، وأن زمنه ينتهي على أوسط تقدير إلى أوائل
القرن الثالث، وفي هذا المقام ندفع شبهة قد وهم فيها بعضهم عند تكلمي في هذا
المقام في الاجتماع الماضي؛ وهي قوله: تقول: إننا لسنا عربًا في مقام ثم ترجع
وتقول في مقام آخر: إننا نحافظ بمنعنا دخول الكلمات الأعجمية في لغتنا على سلامة
جنسيتنا العربية. فنقول له: إننا نعني بالعرب العرب الذين يعتد بعربيتهم في اللسان
لا في النسب والجنس فمثل عنترة وبلال مؤذن رسول الله صلى الله علية وسلم
وصهيب صاحبه والحسن البصري وابن سيرين وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وسعيد
بن جبير ونصيب وعبد بني الحسحاس وابن المقفع - كلهم عرب في ألسنتهم لا في
جنسهم وأنسابهم، فمنهم الهجين، والزنجي، والحبشي، والفارسي والرومي. ومثل
عرب جاوه ومالطه وعرب أسبانيا وعرب المغرب والشام ومصر ليسوا عربًا في
ألسنتهم وإن كانوا عربًا في أنسابهم. وكلنا لا ينكر أن فينا الهاشمي الذي لا يحسن
قراءة الفاتحة، ومثله كثير في بلاد الترك وفارس والهند والصين وإذا سمَّانا التاريخ
وعلم تقويم البلدان عربًا، فإنما يعني علماؤهما العربية الجنسية وإذا قالوا عند ذكر
بلادنا: إن لغتها العربية، فإنما يعنون أن لغة الكتابة والقراءة والعلم والتعليم هي
العربية، أو أنهم يتساهلون في إطلاق العربية على العامية لأن أكثر ألفاظها محرفة
عن العربية وأن أساليبها لم تزل بعد عليها مسحة الأساليب العربية، ولذلك لم يحرمنا
أئمة اللغة حق الارتفاق بهذه الصلة اللسانية فسمونا مولدين، أي أننا نصف أعراب في
اللسان إن لم نكن نصف أعراب في الجنس، إذن فمعنى العرب في كلامنا ما يقابل
المولدين لا ما يقابل الرومي والصقلي.
الدليل الثاني: المحافظة على سلامة اللغة من فشو الدخيل فيها مع التوسع في
استعمال ألفاظها، فإننا وجدنا العرب عند وضعهم للعلوم وترجمتهم لكتب غيرهم،
واقتباسهم صنائعهم؛ لم يرجعوا في تسمية المصطلحات وأسماء الآلات إلا إلى
التوسع في استعمال ألفاظ اللغة اقتداء بالقرآن في تسمية شعائر الدين بأسماء
استعملت قبل القرآن فيما يشبهها كما بينا ذلك آنفا.
الدليل الثالث: المحافظة على صحة فهم القرآن لأننا إذا أبحنا لنا وأولادنا
وأحفادنا إدخال الألوف المؤلفة من الكلمات الأعجمية، وأبحنا لهم كما يرى مناظري
الفاضل اشتقاق جميع المشتقات منها - كنا قد صبغنا اللغة بصبغة إفرنجية لا يتميز
معها العربي من الدخيل، ولاختلط الأمر وأثر الفساد في حالة مدارسة القرآن
وكتب السنة.
الدليل الرابع: المحافظة على البقية الباقية عندنا من الجنسية العربية، فإن هذه
الجنسية المميزة لنا عن سوانا والتي تصلنا بأعظم أمة فاتحة ذات دين وشريعة
ومدنية عظيمة لم تدم لنا إلا بنسبة محافظتنا على القليل من اللسان العربي، فإن
نحن حرسنا بهذا القليل ما نجتلبه من الأجنبي الذي سيستمر آخذًا في الزيادة وذلك في
النقصان نسخ الجديد القديم، ويتلو ذلك نسخ جنسنا، وكفى بذلك ذلاًّ وفناء.
الدليل الخامس: توسيع نطاق اللغة العربية وجعلها لغة علم وصناعة؛ إذ
بنقلنا أسماء عربية قديمة لمعان اصطلاحية نكون قد زدنا في مدلولات اللغة وألفاظها
شيئًا كثيرًا من غير أن نحقنها بهذا المصل الغريب المجهول التأثير الذي إن لم
يعجل منيتها فلا أقل من أن يخلف ندوبًا في جسمها مع إمكان مداواتها بغيره.
الدليل السادس: عدم الاستفادة من التعريب لأننا على فرض تسليمنا جواز
التعريب، فما الفائدة لنا ولأمم أوربا فيه؟ إن قلنا: توحيد لسان العلم وتقربنا من أمم
أوربا كما فعلوا هم، يمنعنا منه عدة أمور:
(1) إن حروف كتابتنا عربية، وحروف ممالك أوربا لاتينية، وهم
يكتبون حروفهم من الشمال إلى اليمين، ونحن نكتب حروفنا من اليمين إلى الشمال.
(2) إن مخارج حروفهم غير مخارج حروفنا.
(3) إن قاعدة التعريب تقتضي أن تكسر الكلمة وتهشمها حتى تصير إلى
صورة عربية، فإن كانت من الكلمات التي تزيد حروفها عن سبع وجب أن نصغرها
حتى تصل إلى سبع ونغير بعض حروفها بأخرى، ونضع في آخرها جيمًا اذا كان
آخرها لا يستقيم كما قالوا في (تازا) طازج ثم نجمعها جموعًا ليس في آخرها
(g) ولا (x) أعني أننا نصهرها في بودقة ونضربها بسَكة أخرى، فبعد أن
تكون (شلنا) تصير قطعة بخمسة لا يُتعامل بها في أوربا، ولئن كان حب التقرب من أوربا يضطرنا إلى استعمال كلماتهم في لغتنا لقد حق علينا أن نستعمل
كلمات من هم أحق منهم بالقربى وهم العامة في مصر والشام والمغرب والعراق مع
اتفاقنا جميعًا على نبذها وتعيير من يدرجها في كتابته، مع إن فيها من
الألفاظ الدقيقة المعنى ما ليس له نظير في الفصيح مثل كلمة (يادوب) فما لنا نكون
حربًا على أممنا وسلمًا لغيرنا.
هذه هي طريقتنا وتللك أدلتنا، وقد أزلت في مقامي هذا وفي الاجتماع
الماضي جميع الشبه التي يمكن أن تخطر على قلب من يرى غير رأينا.
وأما خطبة حضرة مناظري فإنها من حسن الحظ لم تكلفنا كبير مؤنة في الرد
عليه فإني بعد أن سمعتها من حضرته وقرأتها مرارًا ومخضتها مخضًا لم تَجُد علي
بأكثر من ثلاثة احتجاجات:
(الاحتجاج الأول) قال: إن حجتنا في منعنا التعريب هو تشبيهنا اللغة
بالدين، وهو احتجاج تخيله من نفسه ما قلته أنا وما قاله أحد ممن يرى رأيي،
وعلى هذا الخيال أخذ يفرق بين الدين واللغة وأن هذا وضع الله وهذه من وضع
الأفراد إلخ.
(الاحتجاج الثاني) قال: إن طريقة التوسع في الاستعمال بالتجوز
تجر إلى تغير في وضع الكلمة الأصلي وهذا التغير وضع من جديد. وأنكر ذلك
إنكارًا شديدًا فقال: إننا اذا أخذنا الكلمة واستعملناها في شيء جديد (مع قرينة) لم
نكن قد جرينا على لغة العرب لأننا خالفنا أوضاعهم ومقاصدهم. إلى أن قال في
طريقتنا أننا نجري على خطة لا أساس لها مع وصف الخروج عن أوضاع المتقدمين.
ونقول: إننا لا نتكلف الرد على هذا الاحتجاج بأنفسنا، بل نكل ذلك لحضرته،
وكل من قرأ كلام العرب ويعرف ما هي أوضاع المتقدمين. فالعرب أنفسهم استعملوا
طريق التوسع في الوضع والمجاز، وكلكم يعرف أن المتقدمين وضعوا لهذه المسألة
وحدها علمين، علم الوضع، وعلم البيان، وما ذاك إلا أنها أصل من أصول اللغة
وكل الاصطلاحات الدينية والعلمية والصناعية وأسماء الآلات من هذا القبيل، وهو
يدَرس كل يوم (معنى الكلمة لغة واصطلاحًا) وهذه الطريقة التي ينكرها ويقول أنها
لا أساس لها وأنها تخالف أوضاع العرب إلخ، قد نقض رأيه فيها في موضع آخر من
الخطبة، فإنه قسم طرق الوضع إلى ثلاث، فقال: والمعقول في اختيار اللفظ للمعنى
ثلاث طرق:
(1) الوضع من جديد.
(2) التوسع في الاستعمال، وهو المراد بالتجوز بأن يكون اللفظ قد وضع
بإزاء مسمى، ولمناسبة بين المسمى القديم والجديد يستعمل ذلك اللفظ في المعنى
الجديد.
فترون أنه لم يكتف بأن جعل طريقتنا معقولة حتى جعلها إحدى الطرق الثلاث
التي هي طريقة الوضع من جديد وهذه منعها بتة ونحن نمنعها معه.
والثالثة طريقة التعريب، وهو يجيزها، وأنا أمنعها ففيها خلاف؛ فما بقيت إلا
طريقتي وهي بإقراره معقولة أساسية.
(الاحتجاج الثالث) وقد كرره في عدة مواضع أن طريقتنا في التجوز تجر
إلى الاشتراك، واشتراك الألفاظ في المعاني مما يخل بأصل المقصود منها والتجوز
لابد فيه من إقامة القرائن على إرادة ما استعمل اللفظ فيه.
وقال عن نفسه وعمن يرى رأيه: (وهذا وذاك كثيرا ما وقفنا حيارى في فهم
المراد من بعض الألفاظ، فهل نريد بعد ذلك أن نضيف إلى آلامنا آلاما) ، فنقول:
جنبنا الله الحيرة وباعدنا من هذه الآلام. فيم الحيرة وفيم التألم؟ لا توجد لغة في
الأرض إلا والمشترك فيها قسم مهم من أقساط اللفظ.
وبعد فأي لفظ بل جملة من الكلام تفهم بغير قرينة؟ والقرائن في الحقيقة لا
تتناهى، ولئن كان المشترك يحول دون فهم المعنى أو يوقع القارئ في الآلام، لقد
ضل واضعو العلوم ضلالاً مبينًا وجنوا على الناس جناية لا تغتفر بإيقاعهم في
الآلام والحيرة، ولكننا والحمد لله لم نر مهندسًا اشتبهت عليه زاوية المثلث بزاوية
الكلشني ومنشور الأجسام بمنشور النظارة، كما لم نر طبيبًا اشتبه عليه مرض
الاستسقاء بصلاة الاستسقاء.
هذه هي كل ما في خطبة مناظري الفاضل في احتجاجه على طريقتنا، وباقي
ما فيها مقدمة ليست من موضوع البحث وحكاية الطريقة التي كانت العرب تتبعها
في مثل الباء والفاء الفارسيتين، وهي ليست من موضوع الخلاف. ثم نتيجة قرر
فيها أنه لا يسمح بوضع اسم عربي لمسمى حديث إلا إذا دل عليه بنفسه (يعني لا
بقرينة) وبذلك قد حرم طريقة التجوز بتاتًا.
هذا ما رأيته في شرح طريقتي ورد الشبه التي ترد عليها، والله أسأل أن
يعصمنا من الزلل ويجنبنا الخطأ ويمدنا بروح منه، والسلام عليكم ورحمة الله.
أحمد الإسكندري
***
رأي المنار في
الخطبتين والتعريب
إن ما ذهب إليه صاحب هذا الخطاب في مسألة التعريب من كونه خاصًّا بمن
يحتج بعربيتهم هو المقرر عند علماء هذا الشأن، وقد توسع هو في الذين يعتد
بعربيتهم. ولكن ماقرروه في ذلك لم يمنع العلماء والأدباء من اقتباس الكلم الكثير
من الأعاجم عند ما ساقتهم الحاجة إلى ذلك. نعم إن علماء اللغة سموا ما استعمله من
لا يعتد بعربيتهم لضعف الملكة فيهم مولدًا لا معربا كما سموهم المولدين، فإذا كان
الشيخ أحمد الإسكندري يبيح لأهل هذا العصر ذلك ويمنع تسمية ما يستعملونه من
كلام الأعاجم بالمعرب، ويخصه بلفظ المولد فالخلاف يكون لفظيًّا لأن غرض من
يقول بالتعريب هو إباحة إدخال الألفاظ الأعجمية في العربية عند الحاجة مع
التصرف بها، كما تصرف الأولون ولا يبالون أسميت معربة أم سميت باسم آخر.
وقد علمت أنه يمنع هذا الاستعمال مطلقًا وهو المنع الذي لا سلف له فيه. أما القول
باجتناب الإكثار منها والوقوف فيها عند حد الضرورة فلا أرى أن أحدًا غيره يخالف
فيه.
ولكم هممت بأن أنظر فيما جمعوه من الكلم المعرب والمولد وأرجعه إلى
قواعد عامة إذا أمكن ولم أجد سعة في وقتي لذلك. ولعلنا لو اطلعنا على كتاب أبي
منصور الجواليقي لوجدنا فيه غناء يكفينا في هذا المطلب كل عناء.
إنه لا خلاف بيننا وبين الإسكندري إلا في التعريب، فنحن نجيزه عند الحاجة
إليه، وهو يمنعه مطلقًا ويدعي أنه يجري في ذلك على سنن سلفنا في ترجمة علوم
اليونان، ولا نسلم له ذلك فإنهم قد عربوا كثيرا من الكلم. ومن قال إن المعرب
خاص بما نطقت به العرب في جاهليتها ومن يعتد بعربيتهم في الإسلام - فذاك
اصطلاح من هم على تسميته لا حكم يمنعه وإلا فقد قال الخفاجي في مقدمته لشفاء
الغليل (فما عربه المتأخرون يعد مولدًا، وكثيرًا ما وقع مثله في كتب الحكمة
والطب وصاحب القاموس يتبعهم من غير تنبيه) فعلم من هذا أن التعريب واقع
من المتقدمين والمتأخرين، ولكن علماء اللغة سموا ما سمع من العرب قبل التباس
العجمة بألسنتها معربًا، وسموا ما سمع ممن بعدهم مولدًا، وقد أحسنوا بذلك كل
الإحسان؛ إذ هو من مباحث تاريخ اللغة الذي يدل على معرفة تاريخ أهلها. وما
اقترحه الخضري من تميز ما نعربه في هذا العصر من غيره يجري على هذه
الطريقة وأزيد عليه استحسان إطلاق اسم خاص عليه (المتحدَث) .
وجملة القول: إن كلا من الخضري والإسكندري قد أحسن فيما كتب وأصاب
على مانرى فيما أثبت، وأخطأ فيما نفى ولا ننسى فضل ما أطال به الثاني فأفاد.
والذي نراه هو أن يكون للمَجْمَع اللغوي الذي يراد تأليفه الحرية التامة في اتباع
سلفنا في بداوتهم وحضارتهم والزيادة عليهم إذا أمكن؛ فإنه قد يحتاج في نقل
الاصطلاحات العلمية إلى مجاراة الأوربيين في جعل أسماء الآلات الكثيرة التي من
نوع واحد بحيث يعرف من كل منها نوعها الكلي الذي تندرج تحته، ويرى أن ذلك
لا يتم إلا بالتعريب أو الارتجال أو النحت أو غير ذلك.
وقد كبر على الإسكندري الخوف على اللغة من كثرة الاصطلاحات المعربة
حتى جعله مفزعًا جدًّا، والأمر أهون فيه مما تصوره، فصوره في خطابة على
أن الاصطلاحات المترجمة لو كثرت في الإنشاء والخطابة لأفسدت أسلوب اللغة.
وهذا ابن خلدون قد بَيَّن أن مزاولي الفقه وفنون العربية لا تستحكم فيهم ملكة البيان
ولا يكون منهم البلغاء، فللفنون أسلوب أو أساليب خاصة بها لا تجني على
الأسلوب الفصيح، إذا هو أخذ على وجهه في اكتساب الملكة.
للكلام ضروب كثيرة منفصل بعضها عن بعض لا حاجة إلى إدخال
اصطلاحات كل واحد منها في غيره. لكل فن من الفنون العربية والشرعية والعقلية
والرياضية والطبيعية والصناعية والمالية والعسكرية ألفاظ خاصة بها لا يدخل
بعضها في بعض إلا قليلا. وأقل من ذلك ما يحتاج إليه في الكتابة الأدبية والخطابة
والشعر وهي ما به يكون التفاضل في البلاغة وسحر البيان. فإذا كان أساس العربية
في هذا النوع من الكلام هو القرآن الحكيم والأحاديث الشريفة وآثار الصحابة
والتابعين، وهى أساس الدين المتين ثم أشعار الجاهلية وصدر الإسلام - فماذا يضر
اللغة بعد ذلك إذا كثرت اصطلاحات الفنون المعربة أو قلّت؟ وإذا نحن قصرنا في
حفظ هذا الأساس المتين فماذا يفيدنا جعل مصطلحات الفنون من المواد العربية،
ونحن نستعملها في غير ما استعملتها به العرب؟
إننا بهذه الكلمات نقضنا أدلة منع التعريب، وهدمنا هيكلها المسدس، فأما
الدليل الاول: وهو اتفاق أئمة اللغة على أن التعريب ليس من حقوقنا فقد بَيَّنا أنه
اتفاق على التسمية، فلنسم ما نعربه الآن مولدًا كما سموا ما عربه من قبلنا من
العلماء المولدين أو محدثا كما أختار.
وأما الثاني: وهو المحافظة على سلامة اللغة والاقتداء بالعرب في وضع
العلوم وترجمتها فقد بيّنا أن التعريب لا يعرض سلامتها للخطر وإننا لا نخرج به
عن اتباع سلفنا الذين ترجموا علوم اليونان. وإنما يرد علينا هذا إذا التزمنا طريقة
الخضري وهي الاكتفاء بالتعريب عن الترجمة والوضع الجديد، وما نحن بملتزميها
فإننا لم نقبل من طريقته إلا جواز التعريب، وقيدناه بقيد الحاجة إليه.
وأما الثالث: وهو المحافظة على فهم القرآن وكتب السنة فقد علم مما قدمناه
أنه مهما اتسعت دائرة الفنون عندنا، وكنا نقيم القرآن والحديث ونجعلهما أساس
بلاغتنا وينبوع هدايتنا - فإن ضعف أسلوب تلك الفنون لا يصدنا عن اكتساب ملكة
البلاغة، ولا فهم القرآن وكتب السنة والاهتداء بها. وأزيد على ذلك فأقول: إن
العناية بالقرآن وكتب السنة إنما تقوى في المسلمين بقوة الدين وتضعف بضعه، فما
دُمنا مسلمين نتعبد بالقرآن، ونهتدي به وبكتب السنة فإننا لا نزداد بزيادة معارفنا
إلا قوة في ديننا، وإنما يخشى أن يصدنا عن القرآن والسنة بقاؤنا على التقليد
الأعمى مع مهاجمة المدنية الغربية لنا بإباحة المحظورات، وتقطيع الروابط المليِّة
بشبهة الجنسية والوطنية، وتلون السياسة، لا بأسماء المخترعات وتجدد
الاصطلاحات العلمية التي يمكن لنا استعمالها مع المحافظة على كل ما عندنا وإن
عربنا بعض ألفاظها فإن التعريب لا يضعف اللغة وإنما يمدها ويغذيها.
وأما الرابع: وهو المحافظة على الجنسية العربية فقد علم من كلامنا أن
التعريب وهو جعل بعض الكلم العجمي عربيًّا لا يضعف الجنسية، بل يقويها.
ويوضحه ما ذكرناه آنفًا في الكلام على الدليل الثالث. ونزيد عليه بأنه يجب علينا
أن نجهد في تعميم التعليم بالعربية بقدر الاستطاعة، وأن يكون حظنا من اللغات
الإفرنجية نقل العلوم ونشرها بألسنتنا، وذلك لا يتم لنا إلا بتسهيل طرق النقل ومنه
التعريب. فإباحته تأتى بنقيض ما يخافه الإسكندري بالشرط الذي اشترطناه؛ وهو أن
يكون بقدر الحاجة حتى لا يعسر على نقلة العلوم نقلها، فنضطر إلى تعلمها بلغات
واضعيها.
وأما الخامس: وهو توسيع نطاق اللغة، فأمره أظهر، فالتوسعة إنما تكون في
تسهيل نقل العلوم لا في ضده.
وأما السادس: وهو عدم الاستفادة من التعريب فهو ممنوع، على أننا نفوض
الأمر فيه الى المَجْمَع اللغوي مع جعله مباحًا.
***
ترجمة الصناع وغيرهم من العامة:
هذا وإننا نرى العامة تسرع إلى وضع أسماء جديدة لكل ما يصل إليها من
أجناس المخترعات. وقد وقفت على أكثر أسماء أدوات آلات الطباعة وما يتعلق
بها فرأيتها عربية قد تجوز بها الصناع بالتشبيه بأعضاء الإنسان وغيرها ومنها
الأسماء الآتية: (الذراع، والفخذ، والأصابع، والأسنان، ويشتقون من الأسنان
فيقولون مُسَنن. وفي آلة الخياطة هنة صغيرة يسمونها السنة ويعنون بها السن
الصغيرة. ومنها ما يسمونه بالوجه، وهو مايقابل وجه العامل الذي يقف أمامها.
ومن التشبيه بغير أعضاء الإنسان الترس والطنبور والسكينة والدائرة واللقمة
والحوض (لموضع الحبر من آلة الطبع) وتراهم قد عربوا بعض الأسماء تعريبًا
إذا لم يهتدوا بسليقتهم إلى اسم مجازي لها وهو أقلها ومنه الشلندر والياي والصامولة.
ولو عرضت هذه الأدوات والهنات على الخاصة منا لحاروا في تسميتها
وكانت عندهم موضع الخلاف والنزاع والقيل والقال، واتسع فيها مجال المناظرات.
وما سبب ذلك إلا أن هؤلاء الخواص قد ضعفت فيهم ملكة اللغة العامية بما زاولوه
من فنون الإعراب والبيان، ولم يصلوا إلى إحكام ملكة اللغة الفصحى فملكتهم
مذبذبة بين صنعة الفنون وملكة العامية.
فعامة أهل البلاد التي تسمى عربية كالعراق وسوريا ومصر والمغرب يجوز
أن يسموا الآن عربًا بالجنس واللغة؛ إذ ليس لهم لغة إلا العربية. ولا يمنع ذلك
ضعف اللغة في ألسنتهم بما فتكت بها العجمة؛ فإن ضعف الشيء لا يخرجه عن
ماهيته فالإنسان الضعيف إنسان، والدولة الضعيفة دولة. كذلك اللغة الضعيفة لغة.
ومداواة الضعف مما يدخل في مقدور الناس إذا كان كنه المرض معروفًا ودواؤه
معروفًا.
وإني أرى أن جميع المفردات التي يتألف منها كلام أهل سوريا ومصر عربية
الأصل إلا ما يعرف له أصل أعجمي من التركية، أو الفارسية أو اللغات الإفرنجية
- وهو الأقل - وكذلك أساليب الكلام عندهم لا تزال كأساليب العرب في الغالب.
ولعل ألسنة أهل العراق والحجاز أقوم من ألسنة أهل مصر والشام، كما أن
ألسنة أهل هذين القطرين أقرب إلى العربية الفصحى من ألسنة أهل المغرب
الأدنى والاقصى.
إني أعرف من نفسي الضعف في اللغة العامية حتى إن الكلمات التي يَشْكُل
عليَّ فهمها من كلام العوام تكاد تكون أكثر من الكلمات التي يَشْكُل عليّ فهمها في
كتب الأدب والتاريخ. ولكنني قلما أشكلت عليّ كلمة عامية فراجعت لها معاجم اللغة
إلا وجدت فيها أصلها. ومن الكلم الصحيح ما يشكل عليك معناه بعد المراجعة في
المعاجم وهو لا إشكال فيه عند العامة. أذكر أني راجعت مرة جميع ما عندي من
المعاجم لأفهم معنى البنيقة في قول مجنون ليلى:
يضم إليّ الليل أبناء حبها ... كما ضم أزرار القميص البنائق
فما زادني ذلك إلا حيرة، ولم أفهم مسمى البنيقة فهمًا واضحًا يمكنني تعيينه
بالإشارة إليه ولكنني عرفت ذلك بعد من والدتي.
ألا ليت بعض أهل الغيرة يجمع لنا الكلم المحرف على ألسنة العامة ويرجعه
إلى أصله الفصيح لعله يسهل علينا بعد ذلك أن نضبط طرق التحريف فنستفيد من
هؤلاء العوام ما يعز علينا أن نستفيده من معاجم اللغة التي تفسر اللفظ في الغالب
تفسيرًا لا يحدد المعنى. وعند ذلك نعلم أن عندهم من اللغة ما لا يمكن الاستغناء عنه
بالكتب التي نعتمد عليها في حفظها.
من المشهور عندنا أنهم يبدلون القاف همزة، فإذا سمعناهم يقولون (بنيئة
الأميص) نعلم أن أصل العبارة بنيقة القميص، ولكن لهم ضروبًا أخرى من التحريف
تخفى على غير المدقق، فمن ذلك أنني كنت أسمع الفلاحين في بلدنا يقولون:
(فلان يحرط بسنانو) إذا سحق بعض أنيابه على بعض من الغيظ حتى سمع لها
صريف. وقد وقفت بعد هذا على قول العرب (حرق عليك الأرّم ويحرق عليك
الأرم) كقول الشاعر:
نبئت أحماء سليمي إنما ... باتوا غضابًا يحرقون الأرما
فلم يغنني ما أحفظ من استعمال العامة (حرط الأسنان) عن مراجعة حرق
الأرم وهو هو لأني لم أكن أعلم أنهم يبدلون القاف طاء في بعض الأحيان.
وجملة القول: إن لغة عامتنا عربية فيها تحريف لا يخرجها عن كونها هي
اللغة العربية، ولا يخرجهم عن عداد أهل اللغة. ويغلب على ظني أن العرب
الخُلَّص لم تكن تسلم من التفاوت في حديثها بحيث تلتزم الإعراب وإظهار الحركات
في الشعر والخطابة والمماتنة والوصف دون الكلام العادي وحسبنا هذا الإلمام الآن.
وإذا كانت لغة عامة أهل الأمصار التي استعربت بعد عجمة تعد عربية
مريضة فلغة أهل جزيرة العرب عامة، وقبائل الأعراب منهم خاصة عربية
أقرب إلى الصحة، وإننا في حاجة الآن إلى فهم معاجمنا من الفريقين لنتمكن بعد
ذلك من وضع معجم أو معاجم أخرى تحدد المعاني تحديدًا موضحًا بالصور والرسوم
على الطريقة التي تليق بمعارف هذا العصر، وقد سبقنا إليها الغربيون الذين صرنا
محتاجين للسير على طرقهم في جميع ما يصل إليه كسب البشر وجدهم.
نام کتاب : مجلة المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد جلد : 10 صفحه : 887