نام کتاب : مجلة المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد جلد : 10 صفحه : 502
الكاتب: محمد رشيد رضا
حجة الإسلام
أبو حامد الغزالي
إن سيرة عظماء الرجال، أكبر عون على تربية الأجيال، وقد كان الإمام أبو
حامد محمد الغزالي من علماء الإسلام المصلحين في أصول الإسلام وفروعه وآدابه
اعترف له بذلك العلماء، وعدوه من المجددين المشار إليهم بحديث: (إن الله -
تعالى - يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) رواه أبو
داود، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في المعرفة من حديث أبي هريرة، وعلم
عليه في الجامع الصغير بالصحة. وسيأتي ذكر شيء من أقوال الفقهاء والمؤرخين
والصوفية فيه. لذلك هممت منذ سنين بأن أكتب في المنار شيئًا عن الرجال العظام،
أبدأ فيه بملخص سيرته في المنار، ولم أوفق إلى ذلك قبل اليوم. وأرجو أن يكون
فيما أكتبه الآن عبرة لأولي الألباب.
أصله ومنشؤه
هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، لم أر أحدًا ذكر له أكثر من ثلاثة آباء
وأسماؤهم عربية. ولكن نسبه لا يعرف منها، فهو إما من العرب الذين تغلغلوا في
بلاد الفرس من أول الفتح الإسلامي. وإما من الفرس الذين غلبت عليهم الأسماء
العربية؛ لعراقتهم في الإسلام. وإنك لتجد كثيرًا ممن يتكلمون في التاريخ،
يجزمون بنسب العلماء الذين نشئوا ببلاد الفرس في الإسلام، فيقولون: إنهم من
الفرس، وإن فلانًا فارسي الأصل والمنشأ، حتى إن منهم من يعد أصحاب الأنساب
العربية المعروفة من الفرس، كصاحب القاموس وصاحب الأغاني وأضرابهم.
ومن أسباب هذا الغلط فيما أرى؛ اشتهار قول ابن خلدون: إن أكثر علماء الملة
من العجم، وهو مخطئ فى هذا الحكم، ومخطئ فيما علله به. والصواب أن علماء
الإسلام الذين نبغوا في بلاد الفرس وغيرها من بلاد الأعاجم، منهم العربي كمن
ذكرنا آنفًا، ومنهم العجمي كسيبويه، ومنهم المجهول نسبه كأبي حامد الغزالي ,
فيتوقف في مثله حتى يظهر الدليل، وقد يستدل على أنه من سلالة عربية بما يأتي في
فصل اشتغاله بالعلم من بلاغته، مع قلة ممارسته للفنون العربية.
أما ما ينسب إليه الغزالي , فقد اختلف فيه وفي ضبطه، هل هو بالتخفيف أو
التشديد؟ وقد جاء في ترجمة أبي حامد لشارح الإحياء في ذلك ما نصه:
(قال صاحب تحفة الإرشاد نقلاً عن الإمام النووي في دقائق الروضة: التشديد
في الغزالي، هو المعروف الذي ذكره ابن الأثير، وبلغنا أنه قال: منسوب إلى
غزالة - بتخفيف الزاي - قرية من قرى طوس , قلت: وهكذا ذكره النووي
أيضًا في التبيان.
وقال الذهبي في العبر , وابن خلكان في التاريخ: عادة أهل خوارزم وجرجان
يقولون القصاري والحياري بالياء فيهما، فنسبوه للغزل وقالوا: الغزالي، ومثل
ذلك الشحامي.
وأشار لذلك ابن السمعاني أيضًا وأنكر التخفيف، وقال: سألت أهل
طوس عن هذه القرية فأنكروها. وزيادة هذه الياء، قالوا: للتأكيد. وفي تقرير بعض
شيوخنا: للتمييز بين المنسوب إلى نفس الصنعة , وبين المنسوب إلى من كانت
صنعته كذلك.
وهذا ظاهر في الغزالي فإنه لم يكن ممن يغزل الصوف ويبيعه. وإنما
هي صنعة والده وجده.
ولكن في المصباح للفيومي ما يؤيد التخفيف، وأَنَّ غزالة قرية بطوس، وإليها
نسب الإمام أبو حامد. قال: أخبرني بذلك الشيخ مجد الدين بن محمد أبي الطاهر
شروان شاه بن أبي الفضائل فخراور بن عبيد الله بن ست المنا بنت أبي حامد الغزالي
ببغداد سنة عشر وسبعمائة، وقال لي: أخطأ الناس في تثقيل جدنا، وإنما هو
مخفف. وقال الشهاب الخفاجي في آخر شرح الشفاء: ويقال: إنه منسوب إلى غزالة
ابنة كعب الأحبار , وهذا إن صح فلا محيد عنه. والمعتمد الآن عند المتأخرين
من أئمة التاريخ والأنساب , أن القول قول ابن الأثير أنه بالتشديد) .
ولد أبو حامد في مدينة طوس من عمل خراسان سنة 450 قال ابن السبكي في
طبقات الشافعية الكبرى: وكان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكانه بطوس، فلما
حضرته الوفاة وصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف من أهل الخير، وقال
له: إن لي لتأسفًا عظيمًا على تعلم الخط وأشتهي استدراك ما فاتني في وَلَدَيَّ هذين
فعلمهما ولا عليك أن تنفد في ذلك جميع ما أخلفه لهما.
فلما مات أقبل الصوفي على تعليمهما إلى أن فني ذلك النزر اليسير الذي خلفه
لهما أبوهما، وتعذر على الصوفي القيام بقوتها، فقال لهما: اعلما أني قد أنفقت
عليكما ما كان لكما، وأنا رجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي، فأواسيكما به،
وأصلح ما أرى لكما أن تلجئا إلى مدرسة، فإنكما من طلبة العلم فيحصل لكما قوت
يعينكما على وقتكما. ففعلا ذلك، وكان هو السبب في سعادتهما وعلو درجتهما , وكان
الغزالي يحكي ذلك ويقول: (طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله) اهـ.
فأنت ترى أن الغزالي نشأ فقيرًا، وكذلك أكثر النابغين في الأمم والعصور
التي لا إلزام فيها بالتعليم والتربية، يخرجون من بيوت الفقراء، أو من هم على
مقربة منهم. والأغنياء يشغلهم الترف والنعيم عن الجد والاجتهاد في العلم، لا سيما
في تلك الأزمنة التي كان فيها طلب العلم لا يتم إلا بالرحلة إلى العلماء المشهورين،
كما ترى فيما يلي، وناهيك بما كان في طي المسافات من المشاق.
طلب الغزالي للعلم
قرأ في صباه طرفًا من فقه الشافعية على أحمد بن محمد الراذكاني في بلده
(طوس) ثم سافر إلى الإمام أبي نصر الإسماعيلي في جرجان، وعلق عنه كتاب
التعليقة وعاد إلى طوس. قال الإمام أسعد الميهني: فسمعته يقول: قطعت علينا
الطريق، وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا، فتبعتهم فالتفت إليَّ مقدمهم، وقال:
ارجع ويحك وإلا هلكت، فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه، أن ترد
علي تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به. فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت
: كتب في تلك المخلاة، هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها. فضحك وقال:
كيف تدعي أنك عرفت علمها , وقد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها، وبقيت
بلا علم؟ ؟
ثم أمر بعض أصحابه فسلم إليَّ المخلاة، قال الغزالي: هذا مستنطق أنطقه الله
ليرشدني به في أمري، فلما وافيت طوس، أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى
حفظت جميع ما علقته , وصرت بحيث لو قطع على الطريق، لم أتجرد من علمي.
قال التاج السبكي: وقد روى هذه الحكاية عن الغزالي أيضًا الوزير نظام الملك.
أقول: - وفيها من العبرة لمثل طلاب الأزهر- أَنَّ هذا الإمام العظيم ما وصل
إلى ما وصل إليه إلا بعد أن جعل قصده في طلب العلم أن يكون العلم صفة من
صفاته، لا أن يفهم ما يأخذه عن العلماء إذا هو قرأه فقط، فينبغي لكل طالب علم
أن يتلقى العلم؛ لأجل أن يكون له فيه حكم ورأي، ولا يكتفي بأن يكون راويًا
لأقوال العلماء ولو مع الفهم؛ لأن من يفهم علم غيره، لا يعد هو عالمًا إلا إذا هو
أشرب العلم، وصل له فيه فهم خاص، يقدر على الاستدلال عليه، ودفع معارضة
المخالفين عنه، وصار بحيث لو رجع عنه من نقل عنه لا يرجع هو.
قال السبكي: ثم إن الغزالي قَدِم نيسابور ولازم إمام الحرمين، وَجَدَّ واجتهد
حتى برع على يديه في مذهب الشافعي، والخلاف والجدل والأصلين والمنطق ,
وقرأ الحكمة والفلسفة، وأحكم كل ذلك، وفهم كلام أرباب هذه العلوم وتصدى للرد
عليهم وإبطال دعاويهم، وصنف في كل فن من هذه العلوم كتبا أحسن تأليفها،
وأجاد وضعها وترصيفها، كذا نقل النقلة عنه وأنا لم أر له مصنفًا في أصول الدين
بعد شدة الفحص، إلا أن يكون قواعد العقائد وعقائد صغرى (كذا) .
أقول: وفاته كتاب الاقتصاد في الاعتقاد. وظاهر قوله: (وقرأ الحكمة
والفلسفة) أنه لم يقرأها على إمام الحرمين، وهو كذلك كما يعلم من كتابه (المنقذ
من الضلال) وفيه أنه صنف كتبًا في الكلام، وستأتي عبارته فيه.
وقال الزبيدي في ترجمته: بعد أن ذكر من مشايخه بطوس أحمد بن محمد
الراذكاني، وفي جرجان أبا نصر الإسماعيلي، وفي نيسابور إمام الحرمين وشيخه
في التصوف. (ومن مشايخه أيضًا يوسف السجاج، وفي الحديث أبو سهل محمد
ابن أحمد بن عبيد الله الحفصي المروزي، والحاكم أبو الفتح نصر بن علي بن أحمد
الحاكمي الطوسي، وأبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد الخواري خوار طبران،
ومحمد بن يحيى بن محمد السجاعي الزوزني، والحافظ أبو الفتيان عمر بن أبي
الحسن الرواسي الدهستاني، ونصر بن إبراهيم المقدسي على قول الذهبي، وقال
غيره: لم يدركه، فهؤلاء شيوخه في العلوم الثلاثة: يعني الفقه والتصوف والحديث
أقول: وهؤلاء الكثيرون الذين سمع منهم الحديث، إنما سمعه منهم في آخر أمره
بعد أن رجع من سياحاته، ثم قال الزبيدي: ولم أطلع على أسماء شيوخه الذين قرأ
عليهم في الكلام أو الجدل، فإن عثرت على شيء بعد ذلك، ألحقت به إن شاء الله
تعالى. وأما علوم الفلسفة: فلا شيخ له فيها، كما صرح بذلك في كتابه (المنقذ من
الضلال) اهـ.
أقول: إنه أخذ الكلام والخلاف عن إمام الحرمين؛ لأنه كان من المبرزين
فيهما، وما كان للزبيدي أن يغفل عن ذلك. ولم يذكروا شيوخه في الفنون العربية:
كالنحو والصرف والبيان والأدب، ويحتمل أنه أخذ عن الراذكاني مع الفقه شيئًا من
مباديها، واعتمد بعد ذلك فيها على اشتغاله بنفسه، فقد قال عبد الغافر الفارسي
خطيب نيسابور وكان من معاصريه: إنه كان مما يعترض به عليه وقوع خلل من
جهة النحو، يقع في أثناء كلامه، وروجع فيه، فأنصف من نفسه، واعترف بأنه
ما مارس ذلك الفن، واكتفى منه بما يحتاج إليه في كلامه، مع أنه كان يؤلف
الخطب، ويشرح الكتب بالعبارات التي تُعجِز الأدباء والفصحاء عن أمثالها، وأذن
للذين يطالعون كتبه، فيعثرون على خلل فيها من جهة اللفظ أن يصلحوه، ويعذروه
فما كان قصده إلا المعاني وتحقيقها، دون الألفاظ وتلفيقها. اهـ كلام عبد الغافر.
ونحن نرى أن كلامه في كتبه أعلى من كلام أقرانه أسلوبًا، وأحسن بيانًا،
وأشد تأثيرًا، كما نجد فهمه للكلام العربي أدق من أفهامهم، وذلك منتهى المقصد من
الفنون العربية كلها. فإذا كان الوصول إلى هذا المقصد ممكنًا مع الإقلال من
الاشتغال بالنحو، فلماذا يضيِّع العاقل الوقت الطويل في قراءة الكفراوي والشيخ
خالد , والأزهرية والقطر والشذور وابن عقيل والأشموني وحواشي هذه الكتب، على أن كتابًا منها يكفي الطالب ما لا بد منه من النحو.
ولعل من فهم الشذور أو ابن عقيل يكون أعلم من الغزالي بنفس النحو، فعليه أن
يفكر في الطريقة التي يكون بها مع ذلك مثل الغزالي , أو على مقربة منه في فهم
الكلام العربي، الذي وضع النحو لضبطه وللإتيان بالكلام البليغ منه قولاً وكتابةً،
ولذلك طريق غير كثرة مزاولة كتب النحو التي يضعف مثلها ملكة اللسان، كما قال
ابن خلدون، فليفكر في ذلك طلاب الأزهر الأذكياء، لا سيما من كان منهم عربي
اللسان، يسهل عليه فهم الكتب البليغة في الأدب والتاريخ وغير ذلك بالممارسة قبل
تلقي الفنون، فإن كاتب هذه السطور، قرأ كثيرًا من هذه الكتب قبل طلب العلم،
ومنها كتاب إحياء علوم الدين لصاحب السيرة.
ولكن هذا لا يتيسر للأعاجم. وقد يستدل بهذا على أن الغزالي من عشيرة عربية
بقيت محافظة على أصل لغتها، إلا ما لا تخلو عنه طبيعة المخالطة للأعاجم من
التحريف والدخيل؛ إلا أن يقال: لغة الفرس كافة كانت قد تحولت عربية في ذلك
العهد، وصار العارف بالفارسية يتلقاها بالتعلم، وهذا ما ينكره كثير من العارفين
منهم صاحبنا الدكتور محمد مهدي خان فإنه يقول: إن لغة العامة هناك في القرن
الرابع والخامس كانت الفارسية.
وقد كان الغزالي يعرف الفارسية وألف فيها ولو كان فارسي الأصل وهو من
العامة، لكانت لغته الأصلية ومثله، لا يصير بليغًا بالعربية إلا بعد اشتغال بالفنون
طويل، فبلاغته وفصاحته وسلامة عبارته من العجمة على كونه مع العامة، يرجح
كونه عربي الأصل، فهذا ما رأينا أن نبينه من سيرة حجة الإسلام في تلقي العلم
والعبرة فيها للطالبين.
تخرجه وتصدِّيه للإفادة
قلنا: إنه اشتغل أولاً بطوس وكانت مدينة آهلة بالعلم والعلماء في الجملة، وكان
يومئذ مراهقًا، ثم في جرجان وكانت فوق طوس في العلم والعمران، ثم في
المدرسة النظامية بنيسابور أعظم معاهد العلم في خراسان، وما زال فيها يختلف إلى
دروس إمام الحرمين علامة ذلك العصر الزاهر، حتى تخرج به واشتهر، وقد قيل:
إن شيخه كان يجد منه شيئًا في نفسه، وإن كان يفتخر به في الملأ كما سيأتي.
ولما توفي إمام الحرمين سنة 478، خرج الغزالي إلى العسكر وهي محلة بالقرب من
نيسابور، كان يقيم فيها نظام الملك الوزير؛ نصير العلم وكعبة العلماء، فحل من
مجلس الوزير محل القبول.
قال معاصره أبو الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي خطيب نيسابور
في ذلك: محمد بن محمد بن محمد أبو حامد الغزالي حجة الإسلام والمسلمين، إمام
أئمة الدين، لم تر العيون مثله لسانًا وبيانًا، ونطقًا وخاطرًا وذكاءً وطبعًا، أخذ
طرفًا في صباه بطوس من الفقه على الإمام أحمد الراذكاني , ثم قدم نيسابور مختلفًا
إلى درس إمام الحرمين في طائفة من الشبان من طوس، وجد واجتهد، حتى تخرج
في مدة قريبة وبز الأقران وحمل القرآن، وصار أنظر أهل زمانه، وأوحد أقرانه،
في أيام إمام الحرمين.
وكان الطلبة يستفيدون منه، ويدرس لهم ويرشدهم، ويجتهد في نفسه. وبلغ
الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف. وكان الإمام مع علو درجته وسمو عبارته
وسرعة جريه في النطق والكلام، لا يصغي نظره إلى الغزالي سرًّا؛ لإربائه عليه
في سرعة العبارة وقوة الطبع، ولا يطيب له تصديه للتصانيف، وإن كان متخرجًا به
منتسبًا إليه كما لا يخفى من طبع البشر. ولكنه يظهر التبجح به، والاعتداد بمكانه
ظاهرًا خلاف ما يضمره.
(ثم بقي كذلك إلى انقضاء أيام الإمام، فخرج من نيسابور وصار إلى
العسكر , واحتل من مجلس نظام الملك محل القبول، وأقبل عليه الصاحب؛ لعلو
درجته، وظهور اسمه، وحسن مناظرته، وجري عبارته، وكانت تلك الحضرة
محط رحال العلماء، ومقصد الأئمة والفصحاء، فوقعت للغزالي اتفاقات حسنة من
الاحتكاك بالأئمة وملاقاة الخصوم اللُّد، ومناظرة الفحول، ومناقدة الكبار، وظهر
اسمه في الآفاق، وارتفق لذلك أكمل الارتفاق حتى أدت الحال به إلى أن رسم
للمصير إلى بغداد؛ للقيام بتدريس المدرسة الميمونة النظامية بها، فصار إليها،
وأعجب الكل تدريسه ومناظرته، وما لقي مثل نفسه، وصار بعد إمامة خراسان إمام
العراق.
ثم نظر في علم الأصول، وكان قد أحكمها فصنف فيه تصانيف، وجدد
المذهب في الفقه فصنف فيه تصانيف، وسبك الخلاف فجدد فيه أيضًا تصانيف،
وعلت حشمته ودرجته في بغداد، حتى كانت تغلب حشمة الأكابر والأمراء ودار
الخلافة، فانقلب الأمر من وجه إلى آخر) اهـ.
المراد من كلام عبد الغافر هنا؛ ومنه تعلم أن رياسة العلوم الظاهرة، قد
انتهت إليه في سن الشباب , حتى كان يوصف بحجة الإسلام وإمام أئمة العصر،
وهو لم يشتغل بالتلقي عن العلماء إلا بضع سنين.
أقول: إنه تخرج في بضع سنين، أخذًا مما مرَّ من أنه لم يطلب العلم من أول
سن التمييز، بل بعد عجز الوصي عليه وعلى أخيه من النفقة عليهما، ومن قوله
في أول كتابه المنقذ من الضلال: (ولم أزل منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين
إلى الآن، وقد أنافت السن على الخمسين، أقتحم لجة هذا البحر) ... إلخ ما
سيأتي، وقد علم من كلام معاصره عبد الغافر، ومن كلام غيره من المؤرخين، أنه
تخرج في عهد أستاذه إمام الحرمين في مدة قليلة، وقد توفي إمام الحرمين سنة
478، وكانت سن الغزالي 28 سنة؛ أي: إنه كان متخرجًا قبل ذلك.
غرضنا من هذا التحقيق؛ تنبيه طلاب العلم إلى مسألة أرجو انتفاع أذكيائهم
بها، وهي أن طول مدة الاشتغال بالتلقي والتحصيل قلما تأتي بفائدة، بل هي
عنوان البلادة، وخمود الذهن، وخمول النفس، ودليل على فساد التعليم، وأكثر
النابغين من العلماء والحكماء لم يقيموا في معاهد التعليم، والتلقي زمنًا طويلاً. وقد
قرر هذه الحقيقية الفيلسوف سبنسر وقد كان الأستاذ الإمام بعد سنوات قليلة، يحضر
دروس بعض العلماء في علم، وبيده كتاب في علم آخر، يطالع فيه.
تربية الغزالي لنفسه وتفلسفه وتصوفه
العلوم والفنون في نفسها صناعات وآلات، يستعان بها على إصلاح اللسان
والعمل والنفس والعقل، فمن طلب فنًّا منها، كان له في طلبه ثلاثة مقاصد:
(أحدها) : أن يعرف الفن بحسب ما قاله الواضعون له، والمصنفون فيه،
اتباعًا لهم وتقليدًا.
(ثانيها) : أن يعرفه كما عرفه الواضعون بمآخذه ودلائله، بحيث يكون له فيه
رأي وحكم، لا يبالي فيه وافق الواضعين أو خالفهم، وإنما يتحرى فيه ما يراه
صوابًا.
(ثالثها) : أن يعرفه؛ ليستعمله فيما وضع له، ويجعله وسيلة للعمل. وهذا
الأخير يجتمع مع كل من الأول والثاني، وقد يوجدان بدونه ويوجد ألوف من
الصنف المعروف عندنا بصنف العلماء، قرؤوا الفنون العربية والشرعية وبعض
العقلية بالقصد الأول، ووجد كثيرون قرؤوها بالقصد الثاني، وما كان المحصلون
لثمراتها من الآخرين فضلاً عن الأولين إلا الأقلين، فكم من عالم بمسائل النحو
والبلاغة واسع الاطلاع، لم يصلح لسانه ولا قلمه فهو عاجز عن الإتيان بالكلام
الصحيح، بله البليغ الفصيح. وكم من عالم بأحكام الحلال والحرام، والفضائل
والرذائل، فاسد الأخلاق، مرتكب للمحرمات. وكم من عالم بقوانين المنطق بعجز
عن تحديد حقيقية، وإقامة البرهان على عقيدة. وكم من بارع بصناعة الحجة،
نحرير في علم الكلام، وهو فاسد الاعتقاد، أو منطو على الإلحاد، وإن لنا في
سيرة حجة الإسلام، أكبر حجة على هؤلاء الأقوام.
شرع أبو حامد في طلب العلم على طريقة أهل المقصد الأول؛ أعني
المقلدين، فأرشده رئيس العيارين الذين نهبوه منصرفه من جرجان إلى الطريقة
الثانية؛ طريقة الاستقلال، فلم يلبث أن صار إمامًا في زمن قصير؛ لأن المستقل
بنظره، يُحَصِّلُ في سنة ما لا يحصله المقلد الذي يأخذ كل ما يلقى إليه بالتسليم في
سنين كثيرة.
وما كل أحد كالغزالي ترشده كلمة يلفظها قاطع الطريق إلى مثل هذه الحقيقة
التي يجهلها أكثر المشتغلين بالعلم. وإنما يسترشد الناس بالحكمة على قدر استعدادهم
وكان استعداد الغزالي في الذروة العليا، وقد يقرأ سيرته هذه بطولها وتفاصيلها
كثيرون من طلاب العلم في الأزهر وغيره، ثم لا يخرجون من ظلمات التقليد إلى
نور الاستقلال لضعف استعدادهم.
لم يرض أبو حامد من العلم بالمقصد الثاني، الذي لا يعلو به صاحبه عن
مرتبة الصناع، بل حاول في كل علم قرأه الوصول إلى غايته، والتحقق بحقيقته،
فكما كان بالعلوم العربية كاتبًا بليغًا وخطيبًا مفوهًا، وبعلوم الكلام والفقه والخلاف
حجة على الخصم وركنًا للمذهب، أراد أن يكون هو في نفسه على يقين من كل ما
يعتقد، وأن يكون عمله ثمرة علمه، فربى نفسه لذلك تربية خاصة، ومثل هذا لا
يأتي بمعرفة المسائل والدلائل فقط، بل لابد فيه من التربية والمجاهدة، وهاك ما
كتبه عن نفسه في ذلك ملخصًا من كتابه (المنقذ من الضلال) ، قال بعد البسملة
والحمدلة والتصلية.
(أما بعد سألتني أيها الأخ في الدين: أن أبث إليك غاية العلوم وأسرارها،
وغائلة المذاهب وأغوارها، وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين
اضطراب الفرق مع تباين المذاهب والطرق، وما استجرأت عليه من الارتفاع عن
حضيض التقليد إلى يفاع الاستبصار، وما استفدته أولاً من علم الكلام، وما احتويته
ثانيًا من طرق أهل التعليم القاصرين لدرك الحق على تقليد الإمام، وما ازدريته ثالثًا
من طرق التفلسف، وما ارتضيته آخرًا من طريقة التصوف، وما انجلى لي في
تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق، من لباب الحق، وما صرفني عن نشر العلم
ببغداد مع كثرة الطلبة، وما دعاني إلى معاودتي بنيسابور بعد طول المدة، فابتدرت
لإجابتك إلى مطلبك، بعد الوقوف على صدق رغبتك، وقلت مستعينًا بالله ومتوكلاً
عليه، ومستوفقًا منه، وملتجئًا إليه.
اعلموا أحسن الله إرشادكم، وألان للحق قيادكم، أن اختلاف الخلق في
الأديان والملل، ثم اختلاف الأمة في المذاهب على كثرة الفرق، وتباين الطرق،
بحر عميق غرق فيه الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون، وكل فريق يزعم أنه
الناجي و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) وهو الذي وعدنا به سيد
المرسلين؛ وهو الصادق المصدوق حيث قال: (ستفترق أمتي ثلاثًا وسبعين فرقة
الناجية منها واحد) [1] فقد كاد ما وعد أن يكون.
ولم أزل من عنفوان شبابي، وقد أنافت السن على الخمسين، أقتحم لجة هذا
البحر العميق اقتحام الجسور، لا خوض الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة
وأتهجم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة،
وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة، لأميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، لا
أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطلع على بطانته، ولا ظاهريًّا إلا وأريد أن أعلم حاصل
ظهارته، ولا فلسفيًّا إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلمًا إلا وأجتهد في
الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيًّا إلا وأحرص على العثور على سر
صفوته، ولا متعبدًا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ولا زنديقًا معطلاً إلا
وأتجسس وراءه للتنبه لأسباب جرأته، في تعطيله وزندقته.
وقد كان التعطش إلى حقائق الأمور دأبي وديدني، من أول أمري، وريعان
عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي حتى
انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت على (كذا) العقائد الموروثة، على قرب
عهد بسن الصبا، إذا رأيت صبيان النصارى، لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر
وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على النهود، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا
على الإسلام، وسمعت الحديث المروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
حيث قال: (كل مولود يولد على فطرة الإسلام، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو
يمجسانه) فتحرك باطني إلى طلب حقيقة الفطرة الأصلية وحقيقة العقائد العارضة
بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات، وأوائلها تلقينات، وفي
تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات.
فقلت في نفسي أولاً: إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور، فلابد من طلب العلم
بحقائق الأمور، فلابد من طلب حقيقة العلم ما هي، فظهر لي أن العلم اليقيني هو
الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافًا لا يبقي معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم
ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارنًا لليقين
مقارنة لو تحدى بإظهار بطلانه مثلاً مَنْ يقلب الحجر ذهبًا والحية ثعبانًا لم يورث
ذلك شكًّا وإنكارًا، فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فقال لي قائل:
(لا بل الثلاثة أكثر؛ بدليل أني أقلب هذه العصا ثعبانًا) ، وشاهدت ذلك منه، لم
أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه. فأما
الشك فيما علمته فلا.
ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين،
فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، فليس لعلم يقيني.
القول في مداخل السفسطة وجحد العلوم
(ثم فتشت من علومي، فوجدت نفسي عاطلاً من علم موصوف بهذه الصفة
إلا في الحسيات والضروريات، فقلت: الآن بعد حصول اليأس لا مطمع في
اقتباس المشكلات إلا من الجليات، وهي الحسيات والضروريات، فلابد من إحكامها
أولاً؛ لأتبين أن ثقتي بالمحسوسات، وأماني من الغلط في الضروريات من جنس
أماني الذي كان من قبل في التقليديات، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات،
أم هو أمان محقق لا غدر فيه ولا غاية له؟ فأقبلت بجد بليغ، أتأمل في
المحسوسات والضروريات وأنظر، هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهى بي
طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضًا، وأخذ
يتسع هذا الشك فيها، ويقول: من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر
وهي تنظر إلى الظل فتراه واقفًا غير متحرك، ونحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة
والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه يتحرك، وأنه لم يتحرك بغتة ودفعة، بل على
التدريج ذرة ذرة، حتى لم تكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرًا
في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار.
هذا وأمثاله من المحسوسات، يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبه حاكم
العقل، ويخونه تكذيبًا لا سبيل إلى مدافعته. فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات
أيضًا، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات، كقولنا: العشرة أكثر من
الثلاثة، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون
حادثًا وقديمًا، موجودًا معدومًا، واجبًا محالاً.
فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات،
وقد كنت واثقًا بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على
تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكمًا آخر، إذا تَجَلَّى كذب العقل في حكمه،
كما تَجَلَّى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على
استحالته، فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً، وأيدت أشكالها بالمنام، وقالت: أما
تراك تعتقد في النوم أمورًا، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتًا واستقرارًا، ولا تشك
في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل
وطائل، فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق
بالإضافة إلى حالتك؟ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك،
كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نومًا بالإضافة إليها، فإذا وردت تلك الحالة
تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها، أو لعل تلك الحالة ما
يدعيها الصوفية أنها حالتهم؛ إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم , إذا غاصوا في
أنفسهم وغابوا عن حواسهم أحوالاً لا توافق هذه المعقولات، ولعل تلك الحالة هي
الموت؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) [*]
فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة، فإذا مات المرء، ظهرت له الأشياء
على خلاف ما شاهده لآنٍ، ويقال له عند ذلك: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ
حَدِيدٌ َ} (ق: 22) .
فلما خطرت هذه الخواطر انقدحت في النفس، فحاولت لذلك علاجًا فلم
يتيسر، إذا لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم
الأولية، فإذا لم تكن مُسلَّمة لم يكن تركيب الدليل، فأعضل هذا الداء ودام قريبًا من
شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال حتى
شفى اللهُ - تعالى - من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال،
ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقًا بها على أمن ويقين، ولم يكن ذلك بنظم
دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله - تعالى - في الصدر وذلك النور [2] هو مفتاح
أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المجردة، فقد ضيق رحمة الله
الواسعة، ولما سئل رسول الله - عليه السلام - عن الشرح ومعناه في قوله تعالى:
{أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلام} (الزمر: 22) قال: (هو نور يقذفه الله
- تعالى - في القلب) ، فقيل: وما علامته؟ فقال: (التجافي عن دار الغرور،
والإنابة إلى دار الخلود) [3] وهو الذي قال عليه السلام فيه: (إن الله تعالى خلق
الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره) [4] فمن ذلك النور ينبجس من الجود
الإلهي في بعض الأحايين، ويجب الترصد له كما قال عليه السلام: (إن
لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها) [5] .
(والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب، حتى ينتهي إلى
طلب ما لا يطلب، فإن الأوليات ليست مطلوبة فإنها حاضرة، والحاضر إذا طلب فُقِد
واختفى، ومن طلب ما لا يطلب، فلا يتهم بالتقصير في طلب ما يطلب.
القول في أصناف الطالبين
(ولما شفاني الله - تعالى - من هذا المرض (أي: مرض السفسطة)
بفضله، وسعة جوده، انحصرت أصناف الطالبين (أي: للحق في الاعتقاد) في
أربع فرق:
المتكلمون: وهم يدعون أنهم أهل الرأي والنظر.
والباطنية: وهم يزعمون أنهم أصحاب التعليم، والمخصوصون بالاقتباس من
الإمام المعصوم.
والفلاسفة: وهم يزعمون أنهم أصحاب المنطق والبرهان.
والصوفية: وهم يدعون أنهم خواص الحضرة , وأهل المشاهدة والمكاشفة.
فقلت في نفسي: الحق لا يعدو أصحاب هذه الأصناف الأربعة، فهؤلاء هم
السالكون سبل طلب الحق، فإن شاء الحق عنهم فلا يبقى في درك الحق مطمع؛ إذ
لا مطمع في الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته؛ إذ من شرط المقلد أن لا يعلم أنه مقلد
فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده، وهو شعب لا يرأب، وشعث لا يلم بالتلفيق
والتأليف، إلا أن يذاب بالنار، ويستأنف لها صيغة أخرى مستجدة. فابتدرت
لسلوك هذه الطرق، واستقصاء ما عند هذه الفرق، مبتدئًا بعلم الكلام، ومثنيًا
بطريق الفلسفة، ومثلثًا بتعليمات الباطنية، ومربعًا بطريق الصوفية.
هذا ما كتبه الإمام الغزالي عن نفسه، بعد أن تلقى ما شاء الله من العلم بطريق
التقليد زمنًا، وبطريق الاستقلال زمنًا آخر. وقد ذكر بعد ما تقدم فصلاً في مقصود
علم الكلام، وأنه حصله وعقله، وطالع كتب المحققين فيه، وصنف فيه ما شاء أن
يصنف، قال: فصادفته علمًا وافيًا بمقصوده غير واف بمقصودي، وبيَّن أن
مقصود علم الكلام حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها عن تشويش أهل البدعة، وأن
المتكلمين اعتمدوا على مقدمات تسلموها من خصومهم، وألجأوهم إلى التسليم بها،
وهي التقليد أو الإجماع، أو مجرد القبول من القرآن أو الأخبار. قال: (وكان أكثر
خوضهم في استخراج مناقضات الخصوم، ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم. وهذا قليل
النفع في جنب من لا يسلم سوى الضروريات شيئًا أصلاً، فلم يكن الكلام في حقي
كافيًا، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافيًا، نعم لما نشأت صنعة الكلام، وكثر
الخوض فيه، وطالت المدة، وتشوف المتكلمون إلى مجاوزة الذب عن السنة
بالبحث عن حقائق الأمور، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها.
ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم، لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى، فلم
يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق ولا أبعد أن يكون
حصل ذلك لغيري، بل لست أشك في حصول ذلك لطائفة. ولكن حصولاً مشوبًا
بالتقليد في بعض الأمور التي ليست من الأوليات. والغرض الآن حكاية حالي، لا
الإنكار على من استشفى به؛ فإن أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء، وكم من دواء
ينتفع به مريض ويستضر به آخر؟) اهـ.
القول في الفلسفة
ثم تكلم عن الفلسفة وما يذم منها، ويكفر منتحله، وما ليس كذلك قال: (ثم
إني ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة، وعلمت يقينًا أنه لا يقف على
فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعلمهم في أصل
العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من
غور وغائلةٍ. فإذ ذاك يمكن أن يكون ما يدعيه من فساده حقًّا، ولم أر أحدًا من علماء
الإسلام صرف عنايته وهمته إلى ذلك، ولم يكن في كتب المتكلمين من كلامهم، حيث
اشتغلوا بالرد عليهم، إلا كلمات معقدة مبددة ظاهرة التناقض والفساد لا يظن الاغترار
بها بغافل عامي، فضلاً عمن يدعي دقائق العلوم، فعلمت أن رد المذهب قبل فهمه،
والاطلاع على كنهه رمي في عماية.
فشمرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب بمجرد المطالعة،
من غير استعانة بأستاذ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف
والتدريس في العلوم الشرعية، وأنا ممنون بالتدريس والإفادة لثلاث مائة نفر من
الطلبة ببغداد، فأطلعني الله - سبحانه - بمجرد المطالعة في هذه الأوقات المختلسة
على منتهى علومهم في أقل من سنتين، ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه
قريبًا من سنة، أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره حتى اطلعت على ما فيه من
خداع وتلبيس، وتحقيق وتخييل اطلاعًا لم أشك فيه.
ثم ذكر أصناف الفلاسفة، وأنواع علومهم من: رياضيات ومنطقيات
وطبيعيات وإلهيات وسياسيات وخلقيات، وبَيَّنَ رأيه فيها وسنذكره. وانتقل من ذلك
إلى الكلام في مذهب الباطنية.
مذهب التعليم وغائلته
قال: (ثم إني لما فرغت من علم الفلسفة، وتحصيله وتفهيمه وتزييف ما
يزيف منه، علمت أن ذلك أيضًا غير واف بكمال الغرض، وأن العقل ليس مستقلاًّ
بالإحاطة بجميع المطالع، ولا كاشفًا للغطاء عن جميع المعضلات، وكان قد نبتت
نابتة التعليمية، وشاع بين الخلق تحديهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام
المعصوم القائم بالحق، عَنَّ لي أن أبحث عن مقالتهم؛ لأطلع على ما في كتبهم. ثم
اتفق أن ورد عليّ أمر جازم من حضرة الخلافة بتصنيف كتاب يكشف عن حقيقة
مذهبهم، فلم يسعني مدافعته، وصار ذلك مستحثا من خارج ضميمة للباعث الأصلي
من الباطن.
فابتدأت بطلب كتبهم وجمع مقالاتهم، وكان قد بلغني كلماتهم المستحدثة التي
ولدتها خواطر أهل العصر، لا على المنهاج المعهود من سلفهم، فجمعت تلك
الكلمات، ورتبتها ترتيبًا محكمًا مقارنًا للتحقيق، واستوفيت الجواب عنها، حتى
أنكر بعض أهل الحق مني مبالغتي في تقرير حجتهم، وقال: هذا سعي لهم فإنهم
كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم؛ لمثل هذه الشبهات، لولا تحقيقك لها وترتيبك
إياها. وهذا الإنكار من وجه حق.
فلقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة،
فقال الحارث: الرد على البدعة فرض. فقال أحمد: نعم، ولكن حكيت شبهتهم أولاً
ثم أجبت عنها، فلم تأمن أن يطالع الشبهة من تعلق بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب،
ولا يفهم كنهه. وما ذكره أحمد حق. ولكن في شبهة لم تنتشر، ولم تشتهر. أما إذا
انتشرت، فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية. نعم ينبغي أن لا
يتكلف لهم شبهة، لم تتكلف. ولم أتكلف أنا ذلك، بل كنت قد سمعت تلك الشبهة من
واحد من أصحابي المختلفين إليَّ بعد أن كان قد التحق بهم، وانتحل مذهبهم،
وحكى أنهم يضحكون على تصانيف المصنفين في الرد عليهم، فإنهم لم يفهموا بُعد
حجتهم فلذلك أوردتها؛ لئلا يظن بي أني - وإن سمعتها - لم أفهمها، فلذلك قررتها.
والمقصود أني قررت شبهتهم إلى أقصى الإمكان، ثم أظهرت فسادها، ثم
بين ذلك ملخصًا في عدة صفحات، وليس بيان ذلك من مقصدنا، إنما المقصد سيرة
هذا الإمام وبيان كيفية تربيته لنفسه وثمرة ذلك فيها، وفيما قصد إليه من الإصلاح.
القول في طريق الصوفية
(ثم إني لما فرغت من هذه العلوم، أقبلت بهمتي على طريق الصوفية،
وعلمت أن طريقتهم، إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علمهم قطع عقبات النفس
والتنزه عن أخلاقها المذمومة، وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب
عن غير الله تعالى، وتحليته بذكر الله، وكان العلم أيسر عليَّ من العمل، فابتدأت
بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم، مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي رحمه الله،
وكتب الحارث المحاسبي، والمتفرقات المأثورة عن الجنيد والشبلي وأبي يزيد
البسطامي وغير ذلك من كلام مشايخهم، حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية،
وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقتهم بالتعلم والسماع، وظهر لي أن أخص
خواصهم، ما لم يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات،
فكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع، وأسبابهما وشروطهما، وبين أن
يكون صحيحًا وشبعانًا، وبين أن يعرف حد السكر، وأنه عبارة عن حالة تحصل
من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر، وبين أن يكون سكرانًا،
بل السكران لا يعرف حد السكر، وعلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء.
والصاحي يعرف حد السكر وأركانه، وما معه من السكر شيء. والطبيب في
حالة المرض يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها، وهو فاقد للصحة. فكذلك فرق
بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها وأسبابها، وبين أن يكون حالك الزهد
وعزوف النفس عن الدنيا، فعلمت يقينًا أنهم أرباب أحوال، لا أصحاب أقوال، وأنَّ
ما يمكن تحصيله بطريق العلم قد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع
والتعلم، بل بالذوق والسلوك، وكان قد حصل معي من العلوم التي مارستها،
والمسالك التي سلكتها في التفتيش عن صنفي العلوم: الشرعية والعقلية، إيمان يقيني
بالله وبالنبوة وباليوم الآخر، فهذه الأصول الثلاثة من الإيمان، كانت رسخت في
نفسي، لا بدليل معين مجرد، بل بأسباب وقرائن وتجاريب، لا تدخل تحت الحصر
تفاصيلها، وكان قد ظهر عندي أنه لا مطمع لي في سعادة الآخرة إلا بالتقوى، وكف
النفس عن الهوى، وأن رأس ذلك كله قطع علاقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار
الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى، وأن ذلك
لا يتم إلا بالإعراض عن الجاه والمال، والهرب عن الشواغل والعلائق.
ثم لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب
ولاحظت أعمالي وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير
مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير
خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه، وانتشار الصيت،
فتيقنت أني على شفا جرف هار، وأني قد أشفيت على النار إن اشتغل بتلافي
الأحوال، فلم أزل أتفكر فيه مدة، وأنا بعد على مقام الاختيار أصمم العزم على
الخروج من بغداد، ومفارقة تلك الأحوال يومًا وأحل العزم يومًا، وأُقدم فيه رجلاً،
وأؤخر عنه أخرى.
لا تصفو لي رغبة في طلب الآخرة بكرة، إلا ويحمل عليها جند الشهوة حملة
فيفترها عشية، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني سلاسلها إلى المقام ومنادي الإيمان
ينادي: الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا قليل، وبين يديك السفر الطويل،
وجميع ما أنت فيه من العمل والعلم رياء وتخييل، فإن لم تستعد الآن للآخرة فمتى
تستعد، وإن لم تقطع الآن فمتى تقطع، فبعد ذلك تنبعث الداعية، وينجزم العزم على
الهرب والفرار، ثم يعود الشيطان، ويقول: هذه حالة عارضة وإياك أن تطاوعها؛
فإنها سريعة الزوال، وإن أذعنت لها، وتركت هذا الجاه العريض والشأن المنظوم
الخالي عن التكدير والتنغيص، والأمر المسلم الصافي عن منازعة الخصوم، ربما
ألفت إليه نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة، فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا،
ودواعي الآخرة قريبًا من ستة أشهر أولها رجب سنة ثمان وثمانين وأربع مائة , وفي
هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار إذ قفل الله على لساني حتى أعتقل
عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يومًا واحدًا؛ تطييبًا للقلوب المختلفة،
وكان لا ينطق لساني بكلمة، ولا أستطيعها ألبتة، ثم أورثت هذه العقلة في اللسان
حزنًا في القلب، بطل معه قوة الهضم، وقرم الطعام والشراب، فكان لا ينساغ لي
شربة، ولا تنهضم لقمة، وتعدى إلى ضعف القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم عن
العلاج، وقالوا: أمر نزل بالقلب ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج، إلا
بأن يتروح السر عن الهم الملم: ثم لما أحسست بعجزي، وسقط بالكلية اختياري،
التجأت إلى الله - تعالى - التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي {يُجِيبُ
المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهَ} (النمل: 62) وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال
والأهل والولد والأصحاب، وأظهرت عزم الخروج إلى مكة، وأنا أوري في نفسي
سفر الشام؛ حذرًا من أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي في المقام
بالشام، فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبدًا،
واستهدفت لائمة أهل العراق كافة؛ إذ لم يكن فيهم من يجوز أن يكون الإعراض
عما كنت فيه سببا دينيًّا؛ إذ ظنوا أن ذلك هو المنصب الأعلى في الدين وكان ذلك
مبلغهم من العلم، ثم ارتبك الناس في الاستنباطات، وظن من بعد عن العراق
أن ذلك كان لاستشعار من جهة الولاة. وأما من قرب من الولاة، فكان يشاهد
إلحاحهم في التعلق بي، والإنكار علي، وإعراضي عنهم وعن الالتفات إلى
قولهم. فيقولون: هذا أمر سماوي، وليس له سبب إلا عين أصابت أهل الإسلام
وزمرة العلم.
ففارقت بغداد، وفرقت ما كان معي من المال، ولم أدخر إلا قدر الكفاف،
وقوت الأطفال؛ ترخصًا بأن مال العراق مرصد للمصالح؛ لكونه وقفًا على
المسلمين، فلم أر في العالم ما يأخذه العالم لعياله أصلح منه، ثم دخلت الشام،
وأقمت به قريبًا من سنتين لا شغل لي إلا العزلة والخلوة والرياضة والمجاهدة؛
اشتغالاً بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى، كما كنت
حصلته من علم الصوفية، فكنت أعتكف مدة في مسجد دمشق أصعد منارة المسجد
طول النهار، وأغلق بابها على نفسي، ثم دخلت منها إلى بيت المقدس، أدخل كل
يوم الصخرة، وأغلق بابها على نفسي، ثم تحركت فيَّ داعية فريضة الحج،
والاستمداد من بركات مكة والمدينة، وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد
الفراغ من زيارة الخليل - صلوات الله عليه - فسرت إلى الحجاز.
ثم جذبتني الهمم، ودعوات الأطفال إلى الوطن، فعاودته بعد أن كنت أبعد
الخلق عن الرجوع إليه، وآثرت العزلة أيضًا؛ حرصًا على الخلوة، وتصفية القلب
للذكر وكانت حوادث الزمان، ومهمات العيال، وضرورات المعاش، تغير في وجه
المراد، وتشوش صفوة الخلوة، وكان لا يصفو الحال إلا في أوقات متفرقة. لكني مع
ذلك لا أقطع طمعي منها، فتدفعني عنها العوائق، وأعود إليها.
ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور
لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره؛ لينتفع به أني علمت يقينًا أن
الصوفية هم السالكون لطريق الله - تعالى - خاصة، وأن سيرتهم أحسن
السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل
العقلاء، وحكم الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء؛ ليغيروا
شيئًا من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلاً وإن
جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس
وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به، وبالجملة فماذا يقول القائلون
في طريقة طهارتها، وهي أول شروطها تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى.
ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة، استغراق القلب بالكلية بذكر الله.
وآخرها الفناء بالكلية في الله.
وهذا آخرها بالإضافة إلى ما يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها،
وهي على التحقيق أول الطريقة، وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه، ومن أول
الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة
وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتًا، ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من
مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق، ولا يحاول معبر أن
يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح، لا يمكنه الاحتراز عنه، وعلى الجملة
ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول , وطائفة الاتحاد , وطائفة
الوصول , وكل ذلك أخطاء وقد بينا وجه الخطأ فيه في كتاب المقصد الأقصى، بل
الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول (شعر) :
وكان ما كان مما لست أذكره ... فَظُنَّ خيرًا ولا تسأل عن الخبر
وبالجملة فمن لم يرزق منه شيئًا بالذوق، فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا
الاسم، وكرامات الأولياء على التحقيق بدايات الأنبياء، وكان ذلك أول حال رسول
الله - عليه السلام - حين أقبل إلى جبل حراء حين كان يخلو فيه بربه ويتعبد، حتى
قالت العرب: إن محمداً عشق ربه، وهذه حالة يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها،
فمن لم يرزق الذوق، فيتيقنها بالتجربة والتسامع إن أكثر معهم الصحبة، حتى يفهم
ذلك بقرائن الأحوال يقينًا، فمن جالسهم استفاد منهم هذا الإيمان، فهم القوم لا يشقى
جليسهم، ومن لم يرزق صحبتهم، فيعلم إمكان ذلك يقينًا بشواهد البراهين على ما
ذكرناه في كتاب عجائب القلب من كتب إحياء علوم الدين، والتحقيق بالبرهان علم
وملابسة , عين تلك الحالة ذوق، والقبول من التسامع والتجربة بحسن الظن إيمان
فهذه ثلاث درجات: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) ، ووراء هؤلاء قوم جهال، هم المنكرون لأصل ذلك، المتعجبون
من هذا الكلام، يستمعون ويسخرون، ويقولون: العجب إنهم كيف يهذون، وفيهم قال
الله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ
مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد:
16) . اهـ المراد من كلامه.
أقول: هذا ما رأينا أن نبين به كيفية نشأة هذا الإمام، وطلبه للعلم وتربيته
لنفسه، وإننا نحكي فيما يلي ذلك أثر هذا التعليم والتربية , وما استقر عليه رأي
الرجل في العلم والدين.
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ)) [1] رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم بألفاظ مختلفة.
(*) قال في الدرر المنتثرة: هو من كلام علي رضي الله عنه. [2] سنتكلم عن هذا النور في موضع آخر بما يزيده تألقا. [3] رواه الحاكم والبيهقي في الشعب، وابن مردويه من حديث ابن مسعود بلفظ آخر في أوله، وهو أنهم سألوه - صلى الله عليه وسلم - عند تلاوة الآية، كيف انشراح الصدر؟ فقال: (إذا دخل النور القلب انشرح له وانفسح) ، قالوا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ فقال: (الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور) ، وهو في الظاهر خلاف الآية فافهم. [4] رواه أحمد والترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو، وعلم له في الجامع الصغير بالصحة وتتمته: (فمن أصابه ذلك النور يومئذٍ اهتدى، ومن أخطأه ضل) . [5] رواه الطبراني عن ابن عباس بسند ضعيف.
نام کتاب : مجلة المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد جلد : 10 صفحه : 502