نام کتاب : مجلة المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد جلد : 1 صفحه : 191
الكاتب: محمد رشيد رضا
الشعر والشعراء
(3)
التراكيب اللفظية كالأجساد، والمعاني أرواحها، وكأين من ذي جسد مليح لا
تشويه في جثمانه، لكن صفاته الروحية مشوهة، فهو لذلك يُمْقَت من كل ذي طبع
سليم وفطرة صحيحة.
والشكل والخفة في الأرواح ... أملح ما يعشق في الملاح
كذلك الكلام منظومًا ومنثورًا لا تكمل محاسنه إلا بحسن معانيه، ومتانة مبانيه،
ولقد جئنا بمجمل من البيان عن حالة الشعر من حيث مبانيه ومعانيه في العدد التاسع
والعاشر من جريدتنا، وأبنّا أن شعراء الجاهلية كانوا يتصرفون بأشعارهم في جميع
معلوماتهم، وأرجأنا الكلام على بقية طبقات الشعراء إلى هذا العدد. والآن نقول:
إن المخضرمين لا فصْل (فرق) بينهم وبين الجاهليين، إلا بما كانوا به أغزر
علماً، وأفلج سهماً، لما أعطاهم القرآنُ الكريم والحديثُ الشريف اللذان تقاصرت
عنهما من أولئك أعناق العتاق السبق، وَوَنت دونهما خُطى الجياد القرح، لكنهم مع
قدرتهم السامية، ومعارفهم العالية، كانوا أقل نظماً من الجاهليين، كان لهم شاغل
من عبادة الله تعالى ونصرة دينه عن الشعر، وكان أكثر شعرهم في مدح النبي
صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وفي الذَّبّ عنه وعن الإسلام، وأشعار حسان
في ذلك مشهورة، ولغيره من أكابر الصحابة أشعار تدخل في الطبقة العالية، لكنها
لم تشهر، وإليك هذه الأبيات، الأبيّات من قصيدة سيدنا الصديق الأكبر رضي الله
تعالى عنه، نسبها له سليله سيدي مصطفى البكري صاحب ورد السحر، ونسب له
غيرها خلافًا لمن قال من المؤرخين: إنه لم يقل الشعر قط، على أنه مروي عن
عائشة رضي الله تعالى عنها، أما الأبيات فهي:
أمن طيف سلمى في البطاح الدمائث [1] ... أرقت وأمر في العشيرة حادث
ترى في لؤي فرقة لا يردها ... عن الكفر تذكير ولا بعث باعث
رسول أتاهم صادق فتكذبوا ... عليه وقالوا لست فينا بماكث
إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا ... وهرّوا هرير المحجرات اللواهث [2]
فكم قد متتنا فيهم بقرابة ... وترك التقى شيء لهم غير كارث [3]
فإن يرجعوا عن كفرهم لعقولهم ... فما طيبات الحل مثل الخبائث
وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم ... فليس عذاب الله عنهم بلابث [4]
ونحن أناس من ذؤابة غالب ... لنا العز منها في الفروع الأثائث [5]
يميناً برب الراقصات عشية ... جراجيج تخدى في السريح الرثائث [6]
كاذم ظباء حول مكة عُكّف ... يردن حياض البئر ذات النبائث [7]
لئن لم يفيقوا عاجلاً من ضلالهم ... ولست إذا آليت قولاً بحانث [8]
لتبتدرنهم غادرة ذات مصدق [9] ... تحرم أطهار النساء الطوامث
يغادرن قتلى تعصب الطير حولهم ... ولا ترأف الكفار رأف ابن حارث
فأبلغ بني سهم لديك رسالة ... وكل كفور يلتقي الحرب باحث
فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم ... فإني عن أعراضكم غير شاعث [10]
وأما المولدون فقد أكثروا من النسيب والمديح والهجاء، وأقلوا من غيرها،
مع قبضهم على جميع أزمة القول، ومعرفتهم بطرقه وأساليبه، واتساع معارفهم
العلمية والأدبية والمادية والمدنية، ثم جرى المحدثون على آثارهم، وساروا
منحرفين عن محجة العربية الفصحى، حتى بعدوا بها عن معاهدها، وملكت العجمة
عليهم ألسنتهم، حتى صار أمرهم إلى ما علمت، أعرضوا عن النظر في كلام
الأقدمين، وقصروا همهم على محاكاة المعاصرين، ولم يبق لديهم من النسيب
والغزل إلا تشبيه سواد عقائص الشعر بأساود الحيات، والعيون السود ببيض
المرهفات، والقدود بسمر الرماح، والرضاب بالضرَب والراح، والثنايا بالدرر
والإقاح، والجبين بالهلال والصباح، والخدود بالورود وشقائق النعمان، والثدي
بحقاق العاج والرمان، إلى ما يلتحق بهاتا من ذكر الهجر والوصال، والتيه
والدلال، وغير ذلك مما هو مشهور عنهم من الكلام في الغراميات، وربما قرنوا ذلك
بذكر الوقوف على الديار واستنطاق الرسوم والآثار.
وأما المديح فما بقي منه إلا ألفاظ يفيضونها من مكارمهم على كل ممدوح،
كالمجد والسعد، والسخاء والرفد، والفضل والكمال، والرفعة والجلال، والشرف
والعلاء، والسناء والبهاء، والمعارف والعوارف، والفضائل والفواصل، والسماحة
والرجاحة، والبلاغة والفصاحة، يجعلون الممدوح أسخى من حاتم، وإن كان أبخل
من مادر، ويقولون: إنه أفصح من سحبان وائل، وإن كان أعيا من باقل،
ويزعمون أنه أصدق من القطا، وهو أكذب من مسيلمة، وأنه أحلم من أحنف
وأذكى من إياس، وهو أحمق من هَبَنَّقة وأبلد من الذباب، وإذا أخذوا في الرثاء
يقدمون على ذكر هذه الأوصاف تهويلاتهم المشهورة، كقولهم: إن الشمس كسفت،
والنجوم انكدرت، والجبال تصدعت، وعيون الدموع تفجرت، وألسنة العوالم
استرجعت، وقلوب الخلائق تفطرت، وأبواب الجنان فتحت، والحور في القصور
تزينت، ونحو هذا مما ملته الأسماع، وسئمته الطباع، ويكاد يحيط به كل إنسان.
وحاصل القول في الشعر والشعراء: أن العرب كانوا مندفعين إلى الشعر من
طبيعتهم، فكانوا يتناولون بشعرهم كل ما في الطبيعة، وما ينتزعه الذهن منها،
كالخيالات والأوهام. وإن الجاهليين بلغوا به قبيل عصر النبوة الشأو البعيد،
والغاية التي لا وراءها بالنسبة لمعارفهم، وإن الإسلاميين ارتقت في أول الإسلام
ملكاتهم في البلاغة على ملكات الجاهليين، فكان كلامهم في المنظوم والمنثور أحسن
ديباجة وأرصف مبنى وأعلى معنى، لكن لم يلبث الشعراء أن حصروا كلامهم في
مواضيع قليلة (كما علمت ولما علمت) برز فيها أفراد من كل عصر، وما كانوا
يخرجون عنها إلا أحيانًا. وأنه جاء في القرون المتوسطة - لا سيما الثالث والرابع
والخامس - من ساهم السابقين، وخاطر المقرمين، وناهيك بابن دريد المتوفى
في أوائل القرن الرابع، فلقد ضربت مقصورته بكل سهم، وطرقت كل باب، ولا
تنس حكم أبي تمام، وأبي الطيب، وفلسفة أبي العلاء، لكن طرق هؤلاء كانت
عقيمة، ومذاهبهم دارسة، لا سيما مذهب أبي العلاء في فلسفة الأفكار؛ فإنه كان
فيه نسيجَ وَحْدِهِ، لم يحذُ فيه مثال أحد، ولم يتلُ تِلْوه فيه أحد. وإن المتأخرين
هبطوا بالشعر إلى أسفل الدركات، وإن كلامهم في الأكثر خَطَل (فاسد فاضطرب)
وعسلطة (لا نظام له) ، وإنه لا يكاد يوجد المجيد، ولو في موضوع واحد إلا
نادراً. وكان في القرن الماضي (الثالث عشر) عبد الباقي العمري، له شعر
رصين متين في مدح آل البيت عليهم السلام والرضوان.
هذا ما نبه أفكار الفضلاء وأهل الغيرة على الآداب العربية، وحدا بهممهم إلى
حَلّ الشعر العربي من عُقُله وإطلاقه من قيوده فأرشدوا الناس إلى التصرف في المعاني
الجديدة والنظم في المواضيع الشريفة على ما تقتضيه حالة هذا العصر.
طَرَقَ هذا التنبيه مسامع منشئ هذه الجريدة في أوائل طلبه للعلم من أستاذنا
العلامة الشهير الشيخ حسين أفندي الجسر، فجنحت النفس للعمل، وكان أول نظم
نظمته في ذلك قصيدة أشرت فيها إلى مذاهب المتأخرين في الشعر بصيغة الإنكار،
وشيبت ذلك بالمعاني الجديدة التي تعطيها الفنون والصناعات العصرية. القصيدة في
تهنئة صاحب السعادة محمد باشا نجل الأمير عبد القادر الجزائري الشهير يوم صار
ياور حرب لمولانا السلطان الأعظم، أيده الله تعالى، وهي نحو من مائة وعشرين
بيتاً، نأتي على بعضها هنا على سبيل النموذج فنقول:
(مطلع القصيدة)
نصرت دولة المهى التركية ... بلحاظ قامت بها العصبية
ثم ذكرت من حرب دولة الحسان المشبهات بالمهى أن لديها عوالي القدود
السمهرية، وحراب السواعد، وخناجر الحواجب، وزدت على هذا تشبيه غدائر
الشعر الملتوية أطرافها بالبنادق ثم قلت:
أي حسن نرى بهذي الغواني ... كل عضو كآلة حربيه
ما لنا نحسب الحسان ظباء ... ولها فتكة بنا قسوريه
ونسمي خدر الفتاة كناسًا ... ونرى الغاب يدعي الأولويه
ونذوق الغرام عذبًا وإن كا ... ن عذابًا لدى النفوس الأبيه
يا رقيقًا لذات خصر رقيق ... برئت منك ذمة الحريه
قد أذلتك نسوة يتبرجن ... دلالاً تبرج الجاهليه
تلك سلوى أن التخيل يدعو ... رقة العقل رقة طبعيه
(ومنها)
كم تناجي الدجى وما أنت ممن ... يفتري عن ضاوعة المفريَّه
وتبيح الرياح كل غدوّ ... ورواح شؤونك السريه
وتصيخ الآذان تسترق السمع ... جوابًا يأتي من العامريه
قد أقامت لك الأماني سلكًا ... لأداء الرسائل البرقيه
ولكم أنت في عتاب وشكوى ... لحبيب دياره مقصيه
إن نأى يدنه الخيال من التمثيل ... في آلة له رصديه
وعلام الوقوف حول رسوم ... دارسات ما ثَمَّ منها بقيه
تمطر السحب من عيونك ما ثار ... بخارًا عن نارك القلبيه
بحر دمع وفُلْك جسمك فيه ... سيرته أنفاسك الصدريه
(ومنها)
خل عنك التمويه بالغيد وأسلم ... إنما الحب لذة وهميه
قد أقامت على الحقائق سترًا ... فاستسرت نجومها الدريه
حجبت عنك شمسها بسحاب ... ظله قام صورة شمسيه
ومنها في إثبات أن الحب اختياري في مبدئه:
أنت أشعلت نار قلبك بالتحديق ... نحو الحدائق الحسنيه
صاد رسم الحبيب طرفك منها ... بانعكاس الأشعة النوريه
فسرى من زجاجة العين للقلـ ... ب شعاع كجذوة ناريه
ومنها في مدح مولانا السلطان المعظم:
جر ذيلاً عن المجرة إذ جا ... وز هام الجوزاء بالفوقيه
ما علاه نبتون والعقل كم كذب ... حكم المشاعر الحسيه
نافذ الرأي مسقب كل ناء ... من عويص المشاكل الفكريه
يومض الذهن من تلاق لإيجا ... بية الحكم فيه والسلبيه
فكأن السداد والحزم فيه ... برلمان أقيم أو جمعيه
حرر الملك بعد رق فقرت ... فيه عين الإسلام والحريه
أيد الملة الحنيفية السمحة ... فيه والشرعة الحنفيه
فهو والملك إذ تولى عليه ... فتوالت نعمى وولت رزيه
شبح صافحته أم لهيم ... فسرت فيه قوة روحيه
فأباح العمران سر الترقي ... لنفوس الجمعية البشريه
فأفاضت ماء الزراعة عين ... أيقظتها الصنائع العمليه
وأقامت لها التجارة سوقًا ... أحرزت في مجالها السبقيه
وبغيث العلوم أينع روض ... صوحته البوارح الدهريه
فيه شمنا شمس الهدى وشممنا ... منه عرف المعارف الحكميه
ووجدنا جسم الوجود صحيحًا ... بارتقاء الصناعة الطبيه
ورياضي فكره ظل يبدي ... من زوايا الفنون كل خبيه
وتدلت زهر النجوم إلينا ... بل عرجنا للقبة الفلكيه
هل كعبد الحميد يلفى مليك ... أو تولى من عهد آل أمية
عُمريٌّ عدالةً علوي ... سطوةً والسمات عثمانيه
سار في نهج ملكه وكلاء ... مثلوا نور عدله للرعيه
بالشمس نظامها فيه دارت ... واستنارت سيارة بشريه
ومنها بعد ذكر وفود أصناف الناس على المابين حتى الملوك، وكان ذلك عقب
زيارة إمبراطور ألمانيا الآستانة.
فكأن المابين والناس ما بين ... مجدّ سعيًا وذي بطئيه
كعبة والحجيج من كل فج ... ينتحيها أو مركز الجاذبيه
ومنها في مدح الأمير وهو ختامها:
لم أقل إنني خصيص علاه ... فهي دعوى بمدحتي ضمنيه
وكفاني قرب القرابة أنّا ... بوأتنا البنوة النبويه
وبكلي له تسلسل ود ... دار فيه كالدورة الدمويه
يا عريقا بالمكرمات فليست ... هبة تستردّ أو عارِيّه
هاك بكراً جاءت بمبتكرات ... من مجاني جناتها معنويه
أشربت رقة الحضارة لكن ... رويت بالجزالة البدويه
أعجبت بالمديح فيك فقامت ... تتهادى كأنها حوريه
رامت الحلي في الثناء فلبتـ ... ها عقود الكواكب الدريه
فبدت تنتحي علاك وناهيك ... بباد أوفى على المدنيه
تستميح الرضى لكي تغتدي را ... ضية عند ربها مرضيه [1] الدَّمْث: السهل اللين، وأصله للمكان، ويقال: خلق دمث، جمعه دمائث.
(2) الهرير: ما دون النباح من صوت الكلب، واللواهث: جمع لاهثة، واللهث معروف عند العامة، ويقولون: لهت بالمثنّاة، وأظن أن المحجرات إناث الخيل، ويحتمل أن يراد بها الكلاب، وليس لدي نص في هذا وذاك، والسياق لا يأبى شيئاً منهما، والأقرب: الأول؛ لأن من مادته الحجر، وهى أنثى الخيل.
(3) الكارث: من كرثه الغم إذا اشتد عليه.
(4) اللابث: المقيم، أي أن العذاب لا يظل مقيماً دونهم، بل لابد أن يحل بهم.
(5) الذُّؤَابة: الناصية، وغالب: جد من أجداد النبي (صلى الله عليه وسلم) ، والفروع الأثائث: هي الشعور العظيمة الملتفة، كنى بها عن الشرف والرفعة.
(6) الراقصات: هي النوق، والجراجيج: جمع جرجوج، وهي الناقة الطويلة على وجه الأرض أو الشديدة أو الضامرة الوقادة القلب، وتَخدي: تسرع (ثلاثي) ، وأخدى: مشى قليلاً قليلاً، " والسريح كأمير الخرق والجلود البالية تشد على أخفاف النياق إذا دميت، والرثائث البالية والرثيث: كالرث الخلق المبتذل ".
(7) النبائث: الأنرية التي تخرج من البئر والنهر أو التي حولهما.
(8) آليت: حلفت. [9] المصدق: الصدق، يقال للرجل الشجاع والفرس الجواد إنه لذو مصدق، أي صادق الحملة، وصادق الجري.
(10) شعت عرضه ومن عرضه: أي انتاشه ونال منه.
نام کتاب : مجلة المنار نویسنده : رشيد رضا، محمد جلد : 1 صفحه : 191