(وتفضيلها) أي وفي تفضيلها على غيرها أو بعضها على بعض أهو ذاتي اقتضته ذواتها وطبائعها أو يخلق الله تعالى له في ذواتها قولان ثانيهما هو الحق لاستناد جميع الكائنات إليه ابتداء إذ هو الخالق وحده وهي ملكات محمودة مكملة للإنسان وإن تفاوتت النفوس بحسب الفطرة وفي الكمال باعتبار زيادة اعتدال الابدان فكلما كان البدن أعدل كانت النفوس الفائضة أكمل وإلى الخيرات أميل وللكمالات أقبل وعكسه عكسه كما قيل الظاهر عنوان الباطن ثم لا نزاع في أنها من واجبات العقل لحكمه بها من حيث إنها صفات كمال ثم ورد الشرع مؤيدا له ومقررا لحكمه بها وإنما النزاع في أن العاقل قبل وروده أو بعده ولم يبلغه هل يجب عليه بعض الأفعال أو يحرم بعضها بمعنى استحقاق الثواب والعقاب في الآخرة أم لا فعندنا لا إذ لا حكم له ولا إثابة ولا تعذيب قبل وروده وعند المعتزلة نعم بناء على مسألة الحسن والقبح كذا حققه العلامة الدلجي وقال المنجاني ذهب بعضهم إلى أن جميع الأخلاق سيئها وحسنها جبلة وغريزة في العبد ليس فيها اكتساب وإلى هذا مال الطبراني وحكاه عن ابن مسعود والحسن وذهب بعضهم إلى أن جميع هذه الأخلاق إنما هي من كسب العبد باختياره وليس في جبلته شيء منها مخلوقا وهذا مذهب طائفة كثيرة من السلف وذهب الباقون إلى ما ذكره القاضي وعليه المحققون وقال الانطاكي لا شك أن الإنسان لا اختيار له في تغيير خلقتها الأصلية وهيئتها الجبلية فالطويل لا يمكن أن يجعل نفسه قصيرا ولا القصير طويلا ولا القبيح يقدر على تحسين صورته ولا على عكس هيئته وأما الأخلاق المكتسبة من الجود والشجاعة والتواضع والعفة فقد تكون في بعضهم غريزة وجبلة بجود الهي وكمال فطري بحيث يخلق ويولد كامل الأخلاق والآداب كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعضهم لا تكون فيه فيكتسبها بالمجاهدة والرياضة بأن يحمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب فمن أراد مثلا أن يجعل لنفسه خلق الجود فيتكلف تعاطي فعل الجود ويواظب عليه فإنه يصير ذلك عادة له وطبعا فيصير جوادا وكذا من أراد أن يجعل لنفسه خلق التواضع فيواظب على أفعال المتواضع مدة مديدة يصير التواضع له خلقا وكذا جميع الأخلاق المحمودة يمكن تحصيلها بهذا الطريق فإذا الأخلاق الحسنة قد تكون بالطبع أغنى الفطرة وقد تكون بالطبع أغنى باعتبار الأفعال الجميلة وزعم بعض من غلبت عليه البطالة وما اشتغل بالمجاهدة في تهذيب الأخلاق أن الرياضة لا تؤثر في تغيير الأخلاق أنها طباع لا تتغير كالخلقة لكنا نقول لو كانت الأخلاق لا تتغير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات ولما قال صلى الله تعالى عليه وسلم حسنوا أخلاقكم وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل الصيد من التوحش إلى الأنس والكلب من الأكل إلى التأديب والفرس من الجماع إلى السلاسة وكل ذلك تغيير الأخلاق بتوفيق الملك الخلاق.
فصل [قال القاضي رحمه الله تعالى إذا كانت خصال الكمال والجلال]
أي هذا فصل في تعداد خصال حميدة اختص بها ذاته السعيدة مجملة وتذكر فيما بعده