وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك، في بدنه ورأسه، حتى كان وبيص الطيب يرى في مفارقه ولحيته، ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه، ثم صلى الظهر ركعتين، ثم أهل بالحج والعمرة في مصلاه، وقرن بينهما، ثم خرج، فركب القصواء، فأهل أيضا، ثم أهل لما استقلت به على البيداء.
ثم واصل سيره حتى قرب من مكة، فبات بذي طوى، ثم دخل مكة بعد أن صلى الفجر واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 10 هـ- وقد قضى في الطريق ثمان ليال، وهي المسافة الوسطى- فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت، ثم صلى ركعتين خلف المقام وسعى بين الصفا والمروة، ولم يحل، لأنه كان قارنا قد ساق معه الهدي، فنزل بأعلى مكة عند الحجون، وأقام هناك، ولم يعد إلى الطواف غير طواف الحج.
وأمر من لم يكن معه هدي في أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة، فيطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم يحلوا حلالا تاما، فترددوا، فقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت، فحل من لم يكن معه هدي، وسمعوا وأطاعوا.
ثم أقام في مكة حتى اليوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية. فلما زالت الشمس توجه إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء وبات فيها ثم صلى الفجر ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس.
فأجاز حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربة وأربعون ألفا من الناس، فقام فيهم خطيبا، وألقى هذه الخطبة الجامعة:
«أيها الناس، اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا [1] .
إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن عمي ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- وكان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل- وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. [1] ابن هشام 2/ 603.