ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشره.
يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر، غير مختلف، لا يغافل مخافة أن يغافلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر على الحق، ولا يجاوزه إلى غيره.. الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
كان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر، ولا يوطن الأماكن- لا يميز لنفسه مكانا- إذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه؛ حتى لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجته صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، ومن سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، وقد وسع الناس بسطه وخلقه، فصار لهم أبا، وصاروا عنده في الحق متقاربين، يتفاضلون عنده بالتقوى، مجلسه حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم- لا تخشى فلتاته- يتعاطفون بالتقوى، ويوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويؤنسون الغريب.
كان دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب، ولا فحاش، ولا عتاب، ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يقنط منه، قد ترك نفسه من ثلاث: الرياء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: لا يذم أحدا، ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه، كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا، لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم عنده أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويعجب مما يعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق، ويقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فأرفدوه، ولا يطلب الثناء إلا من مكافىء [1] .
وقال خارجة بن زيد: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه، لا يكاد يخرج شيئا من أطرافه، وكان كثير السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يعرض عمن تكلم من غير جميل، كان ضحكة تبسما، وكلامه فصلا، لا فضول ولا تقصير، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم، توقيرا له واقتداء به [2] . [1] انظر الشفا للقاضي عياض 1/ 121، 122، 123، 124، 125، 126، وانظر أيضا شمائل الترمذي. [2] نفس المصدر 1/ 107.