الكذاب [1] - وهو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب بن الحارث من بني حنيفة- نزل هذا الوفد في بيت رجل من الأنصار، ثم جاؤوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأسلموا، واختلفت الروايات في مسيلمة الكذاب، ويظهر بعد التأمل في جميعها أن مسيلمة صدر منه الإستنكاف والأنفة والإستكبار والطموح إلى الإمارة، وأنه لم يحضر مع سائر الوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم أراد إستئلافه بالإحسان بالقول والفعل أولا، فلما رأى أن ذلك لا يجدي فيه نفعا تفرس فيه الشر.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد أري قبل ذلك في المنام أنه أتي بخزائن الأرض، فوقع في يديه سواران من ذهب، فكبرا عليه وأهماه، فأوحى إليه أن انفخهما، فنفخهما، فذهبا، فأولهما كذابين يخرجان من بعده، فلما صدر من مسيلمة ما صدر من الإستنكاف- وقد كان يقول:
إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته- جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده قطعة من جريد، ومعه خطيبه ثابت بن قيس بن شماس، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه، فكلمه فقال له مسيلمة: إن شئت خلينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك، فقال: «لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، والله إني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت يجيبك عني. ثم انصرف [2] .
وأخيرا وقع ما تفرس فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، فإن مسيلمة لما رجع إلى اليمامة بقي يفكر في أمره، حتى ادعى أنه أشرك في الأمر مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فادعى النبوة، وجعل يسجع السجعات، وأحل لقومه الخمر والزنا، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبي، وافتتن به قومه فتبعوه، وأصفقوا معه، حتى تفاقم أمره، فكان يقال له رحمان اليمامة لعظم قدره فيهم.
وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا قال فيه: إني أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأمر، ولقريش نصف الأمر، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب قال فيه: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [3] .
وعن ابن مسعود قال: جاء ابن النواحة، وابن أثال رسولا مسيلمة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال
- نجران، حتى جنح بعض المحققين إلى أن وفادة وأهل نجران كانت مرتين، وقد ذكرنا- ملخصا- ما ترجح عندنا في هذا الوفد. [1] فتح الباري 8/ 87. [2] انظر صحيح البخاري وفد بني حنيفة، وباب قصة الأسود العنسي 2/ 627، 628 وفتح الباري 8/ 87 إلى 93. [3] زاد المعاد 3/ 31، 32.