غدروا بهم وربطوهم بأوتار قسيهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، وأبى أن يصحبهم، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم، فلم يفعل، فقتلوه، وانطلقوا بخبيب وزيد فباعوهما بمكة، وكانا قتلا من رؤوسهم يوم بدر، فأما خبيب فمكث عندهم مسجونا، ثم أجمعوا على قتله، فخرجوا به من الحرم إلى التنعيم، فلما أجمعوا على صلبه قال: دعوني حتى أركع ركعتين، فتركوه فصلاهما، فلما سلم قال: والله لولا أن تقولوا: إن ما بي جزع لزدت، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تبق منهم أحدا، ثم قال:
لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا ... قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم ... وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي ... وما جمع الأحزاب لي عند مضجعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد بؤس مطمعي
وقد خيروني الكفر والموت دونه ... فقد ذرفت عيناي من غير مدمع
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي شق كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
فقال له أبو سفيان: أيسرك أن محمدا عندنا نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟ فقال: لا والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمدا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه.
ثم صلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بخدعة ليلا، فذهب به فدفنه، وكان الذي تولى قتل خبيب هو عقبة بن الحارث وكان خبيب قد قتل أباه حارثا يوم بدر.
وفي الصحيح أن خبيبا أول من سن الركعتين عند القتل، وأنه رئي وهو أسير يأكل قطفا من العنب، وما بمكة تمرة.
وأما زيد بن الدثنة فأتبعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه.
وبعثت قريش إلى عاصم ليؤلئوا بشيء من جسده يعرفونه- وكان عاصم قتل عظيما من عظامائهم يوم بدر- فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر- الزنابير- فحمته من رسلهم؛ فلم يقدروا منه على شيء. وكان عاصم أعطى الله عهدا ألايمسه مشرك، ولا يمس مشركا، وكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته [1] . [1] ابن هشام 2/ 169 إلى 179، وزاد المعاد 2/ 109، صحيح البخاري 2/ 568، 569، 585.