فلما فتح الله للمسلمين في بدر اشتد طغيانهم، وتوسعوا في تحرشاتهم واستفزازاتهم، فكانوا يثيرون الشغب، ويتعرضون بالسخرية، ويواجهون بالأذى كل من ورد سوقهم من المسلمين، حتى أخذوا يتعرضون بنسائهم.
وعند ما تفاقم أمرهم واشتد بغيهم، جمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوعظهم ودعاهم إلى الرشد والهدى، وحذرهم مغبة البغي والعدوان، ولكنهم ازدادوا في شرهم وغطرستهم.
روى أبو داود وغيره، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا يوم بدر، وقدم المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع. فقال: «يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشا» . قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا. فأنزل الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران: 12، 13] [1] .
كان معنى ما أجاب به بنو قينقاع هو الإعلان السافر بالحرب، ولكن كظم النبي صلى الله عليه وسلم غيظه، وصبر وصبر المسلمون، وأخذوا ينتظرون ما تتمخض عنه الليالي.
وازداد اليهود- من بني قينقاع- جراءة، فقلما لبثوا أن أثاروا في المدينة قلقا واضطرابا، وسعوا إلى حتفهم بظلفهم، وسدوا على أنفسهم أبواب الحياة.
روى ابن هشام عن أبي عون أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته، في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها- وهي غافلة- فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله- وكان يهوديا- فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع [2] .
الحصار ثم التسليم ثم الجلاء
وحينئذ عيل صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر، [1] سنن أبي داود مع عون المعبود 3/ 115، ابن هشام 1/ 552. [2] ابن هشام 2/ 47، 48.