وهذه أول تجربة تلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود، في أول يوم دخل فيه المدينة.
هذا كله من حيث الداخلية، وأما من حيث الخارجية، فإن ألد قوة ضد الإسلام هي قريش، كانت قد جربت منذ عشرة أعوام- حينما كان المسلمون تحت يديها- كل أساليب الإرهاب والتهديد والمضايقة وسياسة التجويع والمقاطعة، وأذاقتهم التنكيلات والويلات، وشنت عليهم حربا نفسية مضنية مع دعاية واسعة منظمة، ثم لما هاجر المسلمون إلى المدينة صادرت أرضهم وديارهم وأموالهم، وحالت بينهم وبين أزواجهم وذرياتهم، بل حبست وعذبت من قدرت عليه، ثم لم تقتصر على هذا، بل تامرت على الفتك بصاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم والقضاء عليه، وعلى دعوته، ولم تأل جهدا في تنفيذ هذه المؤامرة. وبعد هذا كله- لما نجا المسلمون إلى أرض تبعد عنها خمسمائة كيلو مترا- قامت بدورها السياسي لما لها من الصدارة الدنيوية والزعامة الدينية بين أوساط العرب، بصفتها ساكنة الحرم ومجاورة بيت الله وسدنته، فأغرت غيرها من مشركي الجزيرة ضد أهل المدينة، حتى صارت المدينة في شبه مقاطعة شديدة، قلت مستورداتها، في حين كان عدد اللاجئين يزيد يوما فيوما. إن «حالة الحرب» قائمة يقينا بين هؤلاء الطغاة من أهل مكة وبين المسلمين في وطنهم الجديد، ومن السفه تحميل المسلمين أوزار هذا الخصام [1] .
كان حقا للمسلمين أن يصادروا أموال هؤلاء الطغاة، كما صودرت أموالهم، وأن يدالوا عليهم من التنكيلات بمثل ما أدالوا بها، وأن يقيموا في سبيل حياتهم العراقيل كما أقاموا في سبيل حياة المسلمين، وأن يكال لهؤلاء الطغاة صاعا بصاع، حتى لا يجدوا سبيلا لإبادة المسلمين، واستئصال خضرائهم.
هذه هي القضايا والمشاكل التي كان يواجهها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ورد المدينة بصفته رسولا هاديا وإماما قائدا.
وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بدور الرسالة والقيادة في المدينة، وأدلى إلى كل قوم بما كانوا يستحقونه من الرأفة والرحمة أو الشدة والنكال- ولا شك أن الرحمة كانت غالبة على الشدة والعنت- حتى عاد الأمر إلى الإسلام وأهله في بضع سنوات، وسيجد القارئ كل ذلك جليا في الصفحات الآتية: [1] الكلمة الأخيرة لمحمد الغزالي في فقه السيرة ص 162.