سبحانه {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [1]، وقال: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [2], وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ} [3].
فلم يكن المعفو عنه في القرآن -إذن- لكي ننحرف أمام أهوائنا، وإنما هي بكل بساطة وصدق مسألة مراعاة للواقع المحسوس الذي يجري فيه نشاطنا، دون أن نذهب في هذه الطريق إلى أحد إلغاء جهدنا، وإعفاء أنفسنا من واجبها. فقد رأينا -عمومًا- أن القاعدة لا تخضع للموقف بذاتها، وإنما هي تخضع له في خصائصها المكانية - الزمانية - كالكمية، والمدة، والشكل، والتاريخ ... إلخ.
فإذا أردنا ألا يكون القانون الأخلاقي حرفًا ميتًا فيجب -في الواقع- أن نجعله في إطار صارم من الزمان، والمكان، والظروف الخارجية المحضة، يجب أن يجد القانون مجال تطبيقه بشكل أو بآخر.
ومن الطبيعي والعدل أن تتطلب فاعلية هذا التطبيق مرونة مناسبة، للتكيف مع الواقع المستقل عن إرادتنا؛ وعندما يخضع التكليف للضرورة عند هذا الحد، فيقف أمام عقبة في هذا الواقع لا تقهر، "مثلًا: حالة الإنسان العاجز عن أداء واجبه العسكري، أو المحروم الجائع الذي لا يستطيع أن يمتنع عن الأطعمة النجسة" -هنا تصبح المسألة أساسًا هي تفادي الهلكة، في فضيلة واحدة على حساب فضائل أخرى تعدلها، أو تفوقها أهمية. وهكذا نجد أن لطف الشريعة لم يكن الهدف منه تقليل الجهد، بل إرساءه على أساس عقلي، أي: "عَقْلَنَته" إن صح التعبير.
ولسوف نرى فيما بعد[4]، بأية طريقة حقق القرآن تركيب هاتين الفكرتين، فلنكتف الآن باستخلاص موقف القرآن أمام المشكلات المتعلقة بمفهوم الإلزام في ذاته. [1] ص: 26. [2] النساء: 135. [3] القصص: 50. [4] انظر الفصل الخامس, الفقرة الثالثة.