ولو أننا -بادئ ذي بدء- نحينا جانبًا الواجبات الأولية المحددة التي لا يؤدي تطبيقها إلى أدنى لبس، مثل: "لا تكذب - أد الأمانة - كن في حاجة الآخرين ... " لبقي أمام الفضيلة المبدعة والبناءة ميدان نشاط متراحب، يضم عددًا لا ينتهي من الدرجات، كلها ممكنة وعملية، فهل يجب استيعابها؟ أم أنه يكفي الاجتزاء ببعضها؟ وبعبارة أخرى، هل الخير والواجب فكرتان متطابقتان؟ وهل لا يوجد فوق السلوك الملزم بشكل صارم درجات يتزايد استحقاقها للثواب، ويصح تجاوزها دون ارتكاب موقف غير أخلاقي؟
إن رجوعنا إلى الضمائر الفردية سوف يصطدم بأن كل الناس ليس لديهم نفس القدر من التشدد، ولا نفس الطاقة الأخلاقية، ويترتب على ذلك أن التنوع في الإجابات يرينا كثيرًا من الاتجاهات المتعارضة؛ فعلى حين أن الأنفس ذات العزيمة القوية[1] تجعل واجباتها في أعلى درجات الكمال الممكن، وبذلك يتطابق لديها المفهومان "أي: مفهوم الواجب والخير" يتجه الكافة بعكس ذلك إلى ما هو أقل وأدنى؛ ليحددوا الواجب على أنه الحد الأدنى من النزعة الإنسانية وحسن المعاشرة.
وعلى الرغم مما يدعيه "كانت" فإننا نتردد في وضعه بين الفلاسفة الذين يؤيدون ارتباط فكرة الإلزام بفكرة الخير؛ بالمعنى الواسع الذي نقصد إليه من هذه الكلمة؛ لأنه لكي يضع فكرة الواجب فوق كل شيء، بدأ بأن استبعد من مجالها علاقات الإنسان بالكائن الأعلى "L' ETRE SUPERIEUR"؛ وبالكائنات الدنيا "LES ETRES INFERIEURS" قاصرًا إياها على الفرد والمجتمع [1] انظر مثلًا الغزالي في الإحياء 4/ 10، وكذلك أبو المعالي، الذي يرى أنه لا توجد خطيئة عرضية، فكل شر أخلاقي هو كبيرة "أبو المعالي بالإرشاد, ذكره الشاطبي في الموافقات 3/ 253".