من سوقها بالتدريج، دون إحداث أزمة اقتصادية بالتحريم الشامل والمفاجئ.
وحين تم هذا، وتخلصت التجارة من تأثيرها لم تبق سوى خطوة واحدة، وهي الخطوة التي أنجزتها الآية الرابعة، والأمر الأخير: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [1].
هذا المسلك اليسير المتدرج يدعونا إلى أن نتذكر الطريقة التي يستخدمها الأطباء المهرة لعلاج مرض مزمن، بل أن نتذكر -بصفة عامة- المنهج الذي تلجأ إليه الأمهات لفطام أولادهن الرضع، ذلك أن هذه الوسائل التي خلت من العنف والمفاجأة تدعو الجهاز الهضمي إلى أن يغير نظامه شيئًا فشيئًا، ابتداء من أخف الأطعمة حتى أعسرها، مارًّا بجميع الدرجات الوسيطة، ألا ما أعظم رحمة الله التي ترفقت بالعباد، على نحو لم يبلغه فن العلاج، ولا حنان الأمهات!!
هذا الجانب التدريجي الذي درسناه لا يقتصر وجوده على بضعة أمثلة فحسب، بل هو ينطبق أيضًا، وبطريقة جدّ واضحة، على الأخلاق القرآنية في مجموعها، كما ينطبق على النظام الإسلامي بعامة.
ومن المعلوم أن القرآن الذي يقوم في هذا النظام بالدور الرئيسي -لم يجئ إلى الناس كتابًا، جملة واحدة، على نحو ما نراه اليوم، فلقد ظهر بعكس ذلك نجومًا تتفاوت في كمها, خلال نيف وعشرين عامًا, تنقسم إلى مرحلتين متساويتين تقريبًا: المرحلة المكية، والمرحلة المدنية. ومن اليسير ملاحظة أن الآيات التي نزلت في المرحلة الأولى كان موضوعها الأساسي دعم الإيمان، وتثبيت المبادئ والقواعد العامة للسلوك، وأن ما سوى تعاليم [1] المائدة: 90.