وذلك في قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .... {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} .... {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [1] وقوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} ... {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} ... {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [2].
والحكيم المسلم لا يستطيع أن ينكر هذه الدرجات، وإذن، فهو عندما ينظر إلى درجة من الأخلاقية أرفع، على أنها واجب حتم، يعلم علم اليقين أن دونها مكانًا يجوز له أن ينزل إليه، ويجب عليه أن يلجه عند الضرورة؛ لأن التصلب العنيد الذي يقف ضد الفطرة حتى النهاية هو بلا ريب جريمة ولذلك قال مسروق: "ومن اضطر إلى شيء مما حرم الله عليه، فلم يأكل، ولم يشرب حتى مات دخل النار"[3].
إننا لا نملك مطلقًا أنفسنا؛ لا نملك أن ننفقها، ولا نملك أن ندخرها، وحينما يطلب الشرع الأخلاقي منا تضحية معينة يجب علينا قبولها عن طواعية ورضاء، فلماذا نكون ملكيين أكثر من الملك حين يعفينا منها؟ إن الامتثال لأمر الفطرة بوساطة أمر الشرع الأخلاقي هو الذي يؤدي قطعًا إلى النية الباسلة، ولكن لا حرج علينا أن نمتثل لهذا الأمر بموجب الرحمة لذاتها، حين يبيح لنا الشرع ذلك. وكل ما يمكن أن يؤخذ على هذا السعي إلى غايات ذاتية مشروعة هو أنه ليس فيه من الأخلاقية سوى طابعها السلبي.
ولكن، قد يقال لنا: إنك قسمت غايات الإرادة إلى مجموعتين: موضوعية، وذاتية، وبعد أن قصرت القيمة الأخلاقية على الإرادة التي يكون هدفها غاية موضوعية، قسمت الغايات الذاتية إلى مشروعة، وغير مشروعة، [1] البقرة: 184-185. [2] النساء: 25-28. [3] الموافقات 1/ 206, وقد عالج الشاطبي في الصفحات من 205-211 مسألة "لا يطلب من المكلف ترك الأسباب المباحة". "المعرب".