أولًا: الحديث القدسي، المروي لدى اثنين من أكابر السلف، وأوثقهم سندًا، هما: البخاري ومسلم، وهو الحديث الذي يقرر أن النية الحسنة التي لم تعقب أثرًا تكتب حسنة، على حين أنها تحتسب عشر حسنات لو تحققت, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه عز وجل: قال: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة" [1].
ثانيًا: وليس أقل من ذلك دلالة ما أثبته القرآن من فرق بين المجاهدين وغير المجاهدين، وفي هؤلاء بين الضعفاء والأصحاء[2]، والحق أنهم جميعًا قد وضعوا تحت عنوان "المؤمنين"، وأنهم موعودون أجمعين بالنعيم الأخروي ولكنهم ليسوا جميعًا في درجة واحدة.
ومن ثم لم يقل القرآن جملة: إن أولئك الذين يجاهدون فعلًا هم أسمى من الآخرين، ولكنه يلون هذا السمو تبعًا للحالة: فتارة تكون "درجات كثيرة" "بالنسبة إلى الأصحاء من المؤمنين"، وتارة هي "درجة واحدة" "يفضلون بها الضعفاء". وهنا يكمن برهاننا، إذ من أين تأتي درجة هذه الرفعة، أو درجاتها ما لم تكن من ذلك الفرق بين الجهود المبذولة، والتضحيات السخية، بين الذين يجاهدون بنياتهم فحسب، وأولئك الذين يبذلون "أموالهم وأنفسهم"؟ ذلكم هو ما يقوله لنا النص هنا أيضًا، قوله تعالى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، [1] البخاري, كتاب الرقاق, باب 30، ومسلم, كتاب الإيمان, باب 57. [2] قال المفسرون: يجب أن يقصد بهم فقط أولئك الذين لا يلزم حضورهم على خط القتال، من أجل الدفاع المشترك.