وقد لاحظ ابن حزم بحق أن الإمام الشافعي في مذهبه القديم الذي كان يعلمه في العراق -كان يعتقد أنه يستطيع تعميم هذه الحالة الخاصة، وأن يجعلها مبدأ عامًّا يقرر أن التوبة تجب الحدود، ولكنه حين جاء إلى مصر وأقام بها، وعرف من السنة قدرًا أفضل من ذي قبل تخلى عن هذه الفكرة، فعاد في مذهبه الجديد إلى النظرية العامة، التي تميز في هذا الصدد نوعين من المسئولية، تابعتين، كل على حدة، لنظامين إسلاميين مختلفين: أحدهما ينظم الحياة الدنيا، والآخر يخص الحكم العلوي في الآخرة. وبذلك تظل فاعلية التوبة في الإطار الديني، دون أن تتجاوزها بالضرورة إلى المجال الاجتماعي[1].
=قال: "وأما ما تسقط عنه التوبة فاختلفوا في ذلك على أربعة أقوال، أحدها: أن التوبة إنما تسقط عنه حد الحرابة فقط، ويؤخذ بما سوى ذلك من حقوق الله، وحقوق الآدميين، وهو قول مالك. والقول الثاني: أن التوبة تسقط عنه حد الحرابة، وجميع حقوق الله من الزنا, والشراب، والقطع في السرقة، ويتبع بحقوق الناس، من الأموال والدماء، إلا أن يعفو أولياء المقتول. والثالث: أن التوبة ترفع جميع حقوق الله، ويؤخذ بالدماء، وفي الأموال بما وجد. والقول الرابع: أن التوبة تسقط جميع حقوق الله، وحقوق الآدميين من مال ودم، إلا ما كان من الأموال قائم العين بيده"، وبذلك يتضح أن المؤلف قد خالف فقط في ترتيب الآراء المختلفة، مع أنه قد أحال قارئه إلى نفس المرجع. "المعرب". [1] نص هذا الموضوع كما جاء في المحلى لابن حزم 11/ 152-158, بتصحيح من خليل الهراس: "قال أبو محمد: قال قوم: إن الحدود كلها تسقط بالتوبة، وهذه رواية رواها أبو عبد الرحمن الأشعري عن الشافعي، قالها بالعراق، ورجع عنها بمصر. ثم نظرنا أيضًا في احتجاجهم على هؤلاء المذكورين بأنهم قد أجمعوا على أن التوبة تسقط عذاب الآخرة، وهذا العذاب الأكبر، فأحرى وأوجب أن تسقط العذاب الأقل، الذي هو الحد في الدنيا. وعذاب الآخرة غير عذاب الدنيا، وليس إذا سقط أحدهما وجب أن يسقط الآخر، إذ لم يوجب ذلك نص قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، وكثير من المعاصي ليس فيها في الدنيا حد، كالغصب، ومن قال لآخر: يا كافر، وكأكل لحم الخنزير، وعقوق الوالدين، وغير ذلك، وليس ذلك بموجب أن يكون فيها في الآخرة عقاب، بل فيها أعظم العقاب في الآخرة، فصح أن أحكام الدنيا غير متعلقة بأحكام الآخرة". وبذلك نرى أن المؤلف لخص وجهة نظر الفقه الظاهري في المشكلة، كما زاد كلام ابن حزم تفسيرًا". "المعرب".