ففي تقرير المنظمة الدولية العربية للدفاع الاجتماعي, التابعة للجامعة العربية: أن معدل الجرائم ضد الأموال في ارتفاع, مع عملية التنمية الاقتصادية, إذ تزداد فرص الاعتداء على الأموال عندما يصبح المجتمع أكثر إنتاجًا وتعقيدًا, وتحضرًا وتصنيعًا, ومن ثم نجد أن نسبة عالية من جرائم الأحداث والشباب, في غالبية البلاد ذات طابع اقتصادي, مثل السرقة, والاختلاس, واقتحام المنازل, والسرقة بالإكراه.
وقد صاحب مرحلة التنمية الاقتصادية السريعة خلال السنوات العشر السابقة, في مصر, زيادة في عدد الجرائم صد الأموال, وبخاصة الأموال العامة, وأصبح لهذا الاعتداء صور متعددة ومستحدثة, كجرائم الرشوة والاختلاس, وتزييف الأوراق الرسمية, وتزييف العملة, أو المسكوكات, وتهريب النقد, وسرقة الكابلات, وتهريب المخدرات, والخطف لطلب الفدية "وهو اعتداء على الأشخاص والأموال في آنٍ".
وثمة صور مستحدثة من الجرائم الاقتصادية, بزغت مع تطبيق النظام التعاوني الزراعي, حيث لُوحِظَ تفشي السرقات من المحاصيل الزراعية, التي تودع في الجمعيات التعاونية الزراعية, قبل شحنها إلى مناطق التخزين العامة, وجرائم الغش والاختلاس باغتصاب خامات ومحاصيل زراعية جيدة النوع بأخرى رديئة, أو التلاعب في الأوراق الرسمية بالحصول على توقيعات من المنتفعين, باستغلال جهلهم بالقراءة والكتابة, وجرائم الرشوة "النقدية أو العينية" لتوريد سلف غير مستحقة للمنتفعين, أو للتغاضي عن مخالفات ارتكبها الزراع أثناء ري الأراضي, أو مقاومة الآفات, أو لعدم الالتزام بتطبيق المخطط الزراعي للدورات الزراعية, وجرائم السوق السوداء في مجال بيع الأسمدة الكيماوية والمبيدات, واختلاس جزء منها, وبيعها مغشوشة[1]. [1] أعد هذا التقرير الدكتور محمود عبد القادر, رئيس وحدة بحوث الأسر بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة - ص43 وما بعدها.
لكنا قد نصادف بين المحكومين أنفسهم أناسًا يودون أن يتولى المشرع بنفسه تحديد كل شيء وتقنينه، فإذا افترضنا أن هذا المشروع يمكن أن يتحقق، فكيف نفسر اقتضاءً من هذا القبيل بالغًا أقصى مداه، إلا بأنه تلمس لأدنى جهد عقلي وأخلاقي؟ إن لم نقل: إنه تنازل محض وبسيط عن الشخصية!!
إن القرآن لا ينقض ذلك الاتجاه إلى حصر كل القواعد، كما لا ينقض الاتجاه المضاد، فهل كان هذا التصرف الحكيم، وذاك الموقف الوسط الذي يقف فيه الفرد دائمًا بمعزل عن طرفي نقيض -مجرد اتفاق؟ أو تحكمًا واعتسافًا؟ أو أن له غاية معينة؟
إننا لكي نقتنع بأن القرآن في إيجازه، وفي تفصيله، يهدف إلى تلك الحكمة التشريعية المنزهة -حسبنا أن نتذكر الواقعة التالية:
"فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج، فحجوا" فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال، رسول الله, صلى الله عليه وسلم: " لو قلت: نعم، لَوَجَبَتْ، ولَمَا استطعتم؛ ثم قال: ذروني ما تركتكم [1]، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه" [2] وفي رواية أخرى أكثر تصريحًا، رواها ابن جرير موقوفة عن أبي ثعلبة الخشني، ورُويت مرفوعة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت [1] يريد أن يقول: لا تستثيروا الوحي، ولا تفتشوا عن شرائع لتضعوها حين لا تجدوها. [2] رواه مسلم, وورد بمعناه في ابن حبان - ذكره السيوطي في الدرِّ المنثور 2/ 335.