responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : إحياء علوم الدين نویسنده : الغزالي، أبو حامد    جلد : 4  صفحه : 314
في الآخرة وكل من لم يجد لذة المعرفة في الدنيا فلا يجد لذة النظر في الآخرة إذ ليس يستأنف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه من الدنيا ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا يحشر المرء إلا على ما مات عليه ولا يموت إلا على ما عاش عليه فما صحبه من المعرفة هو الذي يتنعم به بعينه فقط إلا أنه ينقلب مشاهدة بكشف الغطاء فتتضاعف اللذة به كما تتضاعف لذة العاشق إذا استبدل بخيال صورة المعشوق رؤية صورته فإن ذلك منتهى لذته وإنما طيبة الجنة أن لكل أحد فيها ما يشتهي فمن لا يشتهي إلا لقاء الله تعالى فلا لذة له في غيره بل ربما يتأذى به
فإذن نعيم الجنة بقدر حب الله تعالى وحب الله تعالى بقدر معرفته فأصل السعادات هي المعرفة التي عبر الشرع عنها بالإيمان
فإن قلت فلذة الرؤية إن كان لها نسبة إلى لذة المعرفة فهي قليلة وإن كان أضعافها لأن لذة المعرفة في الدنيا ضعيفة فتضاعفها إلى حد قريب لا ينتهي في القوة إلى أن يستحقر سائر لذات الجنة فيها فاعلم أن هذا الاستحقار للذة المعرفة صدر من الخلو عن المعرفة فمن خلا عن المعرفة كيف يدرك لذتها وإن انطوى على معرفة ضفيفة وقلبه مشحون بعلائق الدنيا فكيف يدرك لذتها فللعارفين في معرفتهم وفكرتهم ومناجاتهم لله تعالى لذات لو عرضت عليهم الجنة في الدنيا بدلاً عنها لم يستبدلوا بها لذة الجنة ثم هذه اللذة مع كمالها لا نسبة لها أصلاً إلى لذة اللقاء والمشاهدة كما لا نسبة للذة خيال المعشوق إلى رؤيته ولا لذة استنشاق روائح الأطعمة الشهية إلى ذوقها ولا للذة اللمس باليد إلى لذة الوقاع
وإظهار عظم التفاوت بينهما لا يمكن إلا بضرب مثال فنقول لذة النظر إلى وجه المعشوق في الدنيا تتفاوت بأسباب أحدهما كمال جمال المعشوق ونقصانه فإن اللذة في النظر إلى الأجمل أكمل لا محالة
والثاني كمال قوة الحب والشهوة والعشق فليس التذاذ من اشتد عشقه كالتذاذ ضعفت شهوته وحبه
والثالث كمال الإدراك فليس التذاذ برؤية المعشوق في ظلمة أو من وراء ستر رقيق أو من بعده كالتذاذه بإدراكه على قرب من غير ستر وعند كمال الضوء ولا إدراك لذة المضاجعة مع ثوب حائل كإدراكها مع التجرد
والرابع اندفاع العوائق المشوشة والآلام الشاغلة للقلب فليس التذاذ الصحيح الفارغ المتجرد للنظر إلى المعشوق كالتذاذ الخائف المذعور أو المريض المتألم أو المشغول قلبه بمهم من المهمات
فقدر عاشقاً ضعيف العشق ينظر إلى وجه معشوقه من وراء ستر رقيق على بعد بحيث يمنع انكشاف كنه صورته في حالة اجتمع عليه عقارب وزنابير تؤذيه وتلدغه وتشغل قلبه فهو في هذه الحالة لا يخلو عن لذة ما من مشاهدة معشوقه فلو طرأت على الفجأة حالة انهتك بها الستر وأشرق بها الضوء واندفع عنه المؤذيات وبقي سليماً فارغاً وهجمت عليه الشهوة القوية والعشق المفرط حتى بلغ أقصى الغايات فانظر كيف تتضاعف اللذة حتى لا يبقى للأولى إليها نسبة يعتد بها فكذلك فافهم نسبة لذة النظر إلى لذة المعرفة
فالستر الرقيق مثال البدن والاشتغال به والعقارب والزنابير مثال الشهوات المتسلطة على الإنسان من الجوع والعطش والغضب والغم والحزن وضعف الشهوة والحب مثال لقصور النفس في الدنيا ونقصانها عن الشوق إلى الملأ الأعلى والتفاتها إلى أسفل السافلين وهو مثل قصور الصبي عن ملاحظة لذة الرياسة والتفاته إلى اللعب بالعصفور والعارف وإن قويت في الدنيا معرفته فلا يخلو عن هذه المشوشات ولا يتصور أن يخلو عنها البتة
نعم قد تضعف هذه العوائق في بعض الأحوال ولا تدوم فلا جرم يلوح من جمال المعرفة ما يبهت العقل وتعظم لذته بحيث يكاد القلب يتفطر لعظمته ولكن يكون ذلك

نام کتاب : إحياء علوم الدين نویسنده : الغزالي، أبو حامد    جلد : 4  صفحه : 314
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست